Al-Watan (Saudi)

الرياضة في مدارس البنات مشكلة تطبيق مقرر الرياضة ليست في عدم توافر صالات رياضية في مباني المدارس، ولا في عدم توافر مدرسات مختصات، بل في يقين وزارة التعليم في أهداف المقرر

-

مازال الجدل بشأن إدخال مقرر التربية البدنية في مدارس البنات مشتعلاً في المجتمع السعودي، وإذا كان مجلس الشورى قد حسم الأمر نظرياً بالموافقة، في جلسته المنعقدة في ‪1435 6/ 7/‬ للهجرة، وكان بعض مسؤولي وزارة التعليم قد تلقوا -حينذاك- قرار الشورى بالترحاب، فإن التطبيق للمقرر لم يدخل حيز التنفيذ إلى الآن.

قرار الشورى في هذا الشأن، لم يصدر بسهولة، فهو مخاض جدل عنيف على مدار 11 عاماً، كان يخبو فيها وينطفئ أكثر مما يظهر، مراعاة لأوهام مألوفة تجاه قضايا المرأة، تحتمي دائما بالتشدد، الذي »يحسنه كل أحد« فيما وصفه الإمام سفيان الثوري، وما ينتج عنه من مواقف الممانعة والتحوط والاسترابة والاتهام.

صدور قرار مجلس الشورى، ما دام الأمر كذلك، انتصارٌ بالإيجاب لصالح المرأة، وهو انتصار لماهيتها، التي تنتقص العقلية الذكورية ضميرها ومسؤوليتها ووجودها العقلاني والإنساني، متوهمة أن رياضتها لجسدها تؤدي إلى الإخلال بحشمتها وعفافها. هذا الانتصار المتأخر لامتلاك المرأة بالتربية البدنية لجسدها، إذ يُسهم في إنضاج وعيها بذاتها، لا ينفصل عن انتصار الدولة عام 1382 للهجرة في عهد الملك فيصل -رحمه الله- لتعليمها رسمياً في كافة المراحل، على قدم المساواة مع شقيقها الرجل، في وجه ممانعة أكثر شراسة آنذاك لتعليم المرأة. فالتعليم هو مفتاح الفكر والتفكُّر الذي يدرك به الكائن كينونته، ويتعقَّل وجوده. وأن تتعلم المرأة يعني أن تمتلك ذاتها وكينونتها التي يتضاعف بها الوجود الاجتماعي ويتوازن مع شقيقها الرجل، فتتبادل مكاسب يقينها في ذاتها مع الرجل، ويتشارك الرجل بالقدر نفسه مكاسب وعيه بذاته معها. ولذلك لم يكن الفكر الممانع لممارسة الفتيات للرياضة في مدارسهن، إلا الوجه الآخر للفكر الممانع لتعلُّمهن القراءة والكتابة، من حيث دلالة الوجهين معا على تمييز ضد المرأة، وانتقاص لها، ورؤية بطريريكية ذكورية للوجود الإنساني تغدو المرأة بموجبها هامشاً على وجود الرجل، و»شيئا« لخدمته ومتعته.

وإن المرء ليعجب حين يجد، في الحُجج التي يجادل بها المنادون بإدخال الرياضة البدنية في مدارس البنات، معارضيهم، صورة المرأة من تلك الوجهة التي لا تتعرف المرأة فيها إلا بوصفها موضوعاً لنظرة الرجل الغريزية.

فما أكثر ما أبدوا وأعادوا في أهمية الرياضة للقضاء على ظاهرة »السمنة« التي اقترن ذكرها لديهم بالتنبيه على شيوعها بين نسائنا، وما أكثر ما أكدوا أهمية الرياضة للصحة واللياقة والرشاقة. وهذه حجج سليمة، فعلاً، لكنها جزئية وعارضة ضمن الأهداف الجوهرية للرياضة البدنية بوصفها فعلاً تربويا وثقافيا. وليس انتقاؤها دون غيرها وحصر التبرير بها في ما يخص المرأة بريئاً من النظرة الذكورية، سواء أكانت قصدا واعياً إلى الاحتيال لإقناع المعارضين، أم كانت عمى مستحوذا وآسراً من دون وعي به. إن التربية البدنية -فيما يتداول التربويون- قوية الأثر في التأكيد على الإرادة الإنسانية والموقف العقلاني؛ فهي تُكسِب الرياضي القدرة على ضبط انفعالاته والتحكم بها، وتُكسِبه الروح الرياضية التي تعوِّده على المشاركة وعلى تقبُّل النتائج. وهذا هدف لا مفكَّر فيه في النظرة التقليدية تجاه الأنثى، بل يجري في شأنه التأكيد على عاطفية المرأة، ولا عقلانيتها، وهشاشة إرادتها، وذلك في مقارنة سالبة لها قياساً على الرجل. وإلى جانب ذلك، فإن الرياضة البدنية تؤدي، ضمن وعي المؤسسات التعليمية بالهدف من مقرَّرها، إلى إكساب السلوك المؤدِّي إلى إبراز القدرات الفردية التي تحقِّق الثقة في النفس، وتعزِّز تحمُّل المسؤولية، وتتيح الفرصة لإثبات الذات. وهذه صفات ذكورية تقليدياً، تلهج بها ألسنة المديح للرجال، ويباركها المجتمع فيهم، في حين لا تبدو مستحسنة في الأنثى، لأنها تثير التوتر مع الرجل، وتجلب الحرج، ولا تتصدر في كل الأحوال ما يمتدحها الرجال به.

أما ما تؤدي إليه التربية الرياضية من تنمية الجرأة، وإكساب الشجاعة والعزم، فإنه يقترن لدى التربويين، بنظرتهم إلى ما تعزِّزه لدى الفرد من الانتماء إلى الجماعة، وازدياد الشعور بروح الفريق.

ولا ينسجم هذا الهدف، مع ماهية المرأة، في الثقافة التقليدية التي تمدح الرجل بالشجاعة والإقدام وتمثيل الجماعة، ولا تستخدم شجاعة المرأة إلا في معنى السخرية بالرجل وتحقيره وإدناء منزلته: انتقاماً منه وعقوبةً له واستنهاضاً له، أو في الذم للمرأة بمفارقة ما ينبغي لها من الخفَر والحياء ومن التبعية للرجل.

هكذا تنتمي التربية البدنية، ضمن الحقل الأشمل للتربية، إلى سياق حديث، هو سياق العلوم الإنسانية، التي تضافرت في إنتاج وعي أعمق بالفرد والمجتمع، أفادت منه المؤسسات التعليمية في توظيف ما يسهم في إنضاج شخصية المتعلم، ذكراً كان أو أنثى. وهو وعي أصبحت استراتيجيا­ت التنمية والتحديث في المجتمعات الحديثة، تدرك في ضوئه أن الخلل في تربية المرأة وإفقار شخصيتها، لا يقتصر أثره السيئ عليها، بل يتعداها إلى المجتمع كاملاً، تماما كما هو الخلل في تربية الرجل، سواء بسواء.

وتدرك في ضوئه أيضا، خطيئة أن نفرض على المرأة مقاييس ذكورية، وخطيئة أن نفرض على الرجل مقاييس نسوية، فرياضة المرأة هي رياضة نسوية بشروط ومقاييس خاصة بالمرأة، ورياضة الرجل كذلك، وإلا فارقنا طبيعة كل منهما، وأخلَلْنا بالشرط التربوي والثقافي.

ولم يكن بدٌّ من أن يصطدم هذا المنظور التنموي والتحديثي مع الثقافة التقليدية، وأن تمانع هذه الثقافة التقليدية التعليم للمرأة -حين ابتدأ تعليمها- كما تمانع -إلى الآن- رياضتها، وذلك بسبب التضاد بين فعل التحديث والتنمية من حيث هو حركة وتغير، وفعل التقليد الذي يأبى الحركة ويعاند التغير. وكما أضفى الموقف التقليدي على موقعه صفة دينية، واستخدم فتاوى واستدلالات نقلية وعقلية تنسب موقف الممانعة للتعليم الحديث، وتعليم المرأة على نحو أخص، إلى حكم شرعي بالتحريم، فإن موقف الممانعة لإدخال التربية البدنية إلى مدارس البنات، يمارس الاستدلال الديني وتوظيف الفتاوى بالطريقة نفسها. ولم يكن التعليم النظامي الحديث للبنات مصادماً للدين، بل على العكس من ذلك كان استضاءة بنوره وامتثالاً لهداه، ولكنه كان -بسبب محدودية الثقافة وانغلاقها- مصادماً لأوهام وظنون ومخاوف غير واقعية ولا عقلانية، استُخدِم الدين لإضفاء شرعية عليها.

وهي الأوهام والمخاوف والظنون نفسها التي يتكئ عليها الممانعون لرياضة البنات بدنياً؛ فهم يخافون من اختلاط المرأة بالرجال، ويتوهمون تمرد الفتيات على أسرهن، وتتراءى لهم مؤامرة كونية في حصة الرياضة، ويتخيلون عملاً خفياً يسعى إلى تغريب المرأة والمجتمع... الخ.

ولحسن الحظ لم ينعقد الإجماع على هذه الأوهام والمخاوف، لا في شأن تعليم البنات ولا في رياضتهن، فقد وجد المجتمع في الموقف الفقهي المستنير لدى بعض الفقهاء ما شجَّعهم على تدريس بناتهن وابتعاثهن والثقة بهن، وهو الموقف المستنير نفسه الذي يقفه عديد الفقهاء الآن من إدخال الرياضة إلى مدارس البنات.

والمؤكَّد –بعدئذ- أن مشكلة تطبيق مقرر الرياضة ليست في عدم توافر صالات رياضية في مباني المدارس، ولا في عدم توافر مدرسات مختصات، بل في يقين وزارة التعليم في أهداف المقرر، وحس المسؤولية تجاه تنفيذه.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia