Al-Watan (Saudi)

الفوضى المصنوعة

-

لدي يقين بأن الفوضى لا تحدث صدفة، وبخاصة عند ارتباطها بمصلحة طرف أو فئة، أو عند وجود مقدمات إعلامية تهييجية تفضي إليها، أو عند تزامنها مع خلاف حاد بين طرفين أو أكثر. وحين أقرر أن الفوضى لا تحدث صدفة، فإن هذا ينسحب على الفوضى العبثية؛ لأنها لا تكون إلا نتيجة خلل تربوي أو اقتصادي أو اجتماعي أو أمني، أو تراكمات ثقافية سلبية ناجمة عن خِطابات تعزز العصبيات، وتزيد أسباب التكتلات العدائية الحدية التي ترفض المختلف رفضا لا يقف عند الرفض، بل يتعداه إلى التحريض من خلال تجريم المختلف وتشذيذه واتهامه بالخروج على السائد عرفيا أم دينيا، وهي تهمة كافية لإيغار صدور العوام، مما يجعلهم يمارسون الفوضى لا شعوريا؛ ذلك أنهم يرتكبون الحماقات للحماقات بوصفها تفريغا أو عبثا أو طيشا، فيما هم – في دواخلهم – يجدون مبرراتها جاهزة في قوالب الخِطاب التحريضي التي قد لا تكون تحريضا مباشرا، لكن كثرتها وتكرارها يحولانها إلى تحريض خفي أقوى تأثيرا من التحريض المباشر. لا تحتاج صناعة الفوضى إلى عقول عبقرية؛ لأنها داخلة في التخريب، وهو لا يتطلب سوى تحييد الضمير، والتخلي عن المبادئ، واستبعاد الشعور بالانتماء إلى وطن، فضلا عن حبه والحرص على أمنه، أو الحرص على السلم الاجتماعي بوصفه أهم أركان الاستقرار. يكفي لتأجيج فوضى عارمة زرْع بضعة عملاء يشعلون الفتيل في أي تجمهر ثم ينسحبون، لتبدأ بعدهم إحدى جزئيات نظرية »سيكولوجية الجماهير« في التحقق، فينساق المئات خلف نار الفتيل يزيدونها اشتعالا، دون أن يدركوا أسباب فعلهم، ودون أن يعرفوا أهداف صانعي الشرارة الأولى، أو يدركوا خطورتها. أهداف صانعي الفوضى تتباين بحسب الأزمنة والصانعين والأماكن، فقد يكون الهدف الضغط المجرد، أو إرسال رسالة وحسب، وقد يكون أكبر وأخطر منهما، وهو التقويض وصولا لمرحلة »اللادولة«، وهو هدف يمهد له الهدفان الأولان. قد تبدو الفوضى الشبابية التي حدثت بعد احتفالية »أبها عاصمة السياحة العربية« عفوية عبثية، إلا أن القليل من التأمل في المقدمات التهييجية التي سبقت الاحتفال، يقود إلى ترجيح أن تلك الفوضى نتيجة؛ ذلك أن المقدمات التي امتلأت بها مواقع التواصل الاجتماعي، خلقت انقساما مجتمعيا حول أخلاقية إقامة الحفل، بعد أن مارست شكلا من أشكال »المتاجرة بدماء شهدائنا الأبرار«، لتوغر صدور العامة ضد منظمي الاحتفالية مؤسساتٍ وأفرادا، إلى الحد الذي جعل فئة تتشفى بوطنها بعد الفوضى، وتلك درجة خطيرة من عدم الشعور بالمسؤولية الوطنية، وعدم الوعي بأهمية السلم الاجتماعي في الاستقرار والأمن. لا أسيء الظن هنا بأحد، ولا أتهم أحدا، لكنني أفكر بصوت عال، محاولا إعادة الأحداث إلى جذورها الافتراضية، وأنا على يقين بأن بعض المشتغلين بتدبيج المواد الإعلامية المعارضة للاحتفال، سيحجمون عن ذلك لو أنهم علموا الغيب، وعرفوا أن النتائج أخطر من الفوائد، ولو أنهم أدركوا قبل ذلك، أن الوطن واسع سعة يستوعب بها التيارات كلها، دون حاجة إلى استماتة تيار في فرض توجهه، على حساب السلم الاجتماعي، وبالتالي على حساب الوطن وأمنه. لا يحق لأحد أن يستنكر على أي تيار إقامة فعالياته الملائمة لتوجهه، فليس من حق التيار المقابل – مثلا - استنكار تنظيم حفل إنشادي في خيمة دعوية، وعليه؛ فإنه لا يحق له التحريض على مشرفي تلك الخيمة، أو ذلك المنشط؛ لأن في التحريض تكريسا للانقسام المجتمعي ذي النتائج الخطيرة، ومنها الفوضى بكل ما تنطوي عليه من نتائج مدمرة لا سمح الله.

tehani@awatan.com.sa

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia