Al-Watan (Saudi)

صالح زياد الغامدي

لا تبدو القيم الأخلاقية مأزقاً، بقدر ما تبدو في مأزق التلاعب بها، واستخدامها والعبث فيها. وحين تكون القيم الأخلاقية في مأزق فهذا يعني أن الإنسان في مأزق

- Zayyad62@alwatan.com.sa

لا ينفك الإنسان عن إصدار أحكام تقويمية، أو تلقيها، بطريقة صريحة أو ضمنية. فهو يَحكُم على نفسه وأفعاله أحكاما مختلفة تتراوح بين الرضا عنها والافتخار بها والرغبة فيها والتلذذ بها... إلخ وبين ما هو بعكس ذلك وعلى نقيضه.

وهو محاط بأحكام القيمة تلك، من الآخرين الذين يحيطون به، سواء كانوا على صلة ذاتية حميمة به: أسرته وأصدقاءه وعشيرته ومجتمعه ومعلميه ورؤساءه، أو كانوا على مبعدة منه وتغاير، كمنافسيه وأعدائه والمختلفين معه والأغراب عنه.

وهو محاط بأحكام القيمة، فيما يقرأ من الكتب والمنشورات، وفيما يشاهد من الأفلام والبرامج، وفيما يستمع؛ محاط بها في الثقافة التي يتلقاها بمحض رغبته واختياره، أو بإرادة المؤسسة الاجتماعية التي ينتمي إليها.

يقرأ، مثلا، فلا تنفك قراءته عن الدلالة له على معان وصور أو أخرى من زاوية الاستطابة لها أو تقبيحها، مدحها أو ذمها، الترغيب فيها أو الترغيب عنها، الاطمئنان تجاهها أو الخوف منها... ويشاهد أو يستمع أو يجلس مع من يحلو له الجلوس معه، أو مع من يلزم عليه الجلوس معه، فيحدُث له ما يحدُث له حين يقرأ.

وإذا لم يكن الإنسان متلقيا فحسب لأحكام التقويم، بل منتجاً لها بنفسه وصانعاً إياها، فليس بالضرورة أن يكون هو ذاته، في تلقيه لها أو في إنتاجه إياها، موضوعاً مباشرا لها، بل قد يكون موضوعها شخصا أو أشخاصاً آخرين أو موضوعاً عاماً.

لكن أحكام التقويم ليست فحسب، في تعالي الإنسان على ذاته وممارساته، وانفصاله عنها، ليصدر تلك الأحكام؛ فممارساته وعاداته ومشاعره وتصوراته، تتضمن في ذاتها أحكام قيمة. والمرء في إقباله على ما يلذُّه ويستطيبه، يُنتِج حُكم قيمة على ممارسته أو عادته هذه، ولأنه حُكم قيمة فإنه لا يخصه وحده، بل يبدو دعوة موجهة إلى غيره بالاستطابة لمثل سلوكه. تماما كما هو نفوره، وتحاشيه أو امتعاضه، أو حتى صمته ووجومه.

هذه الأحكام التقويمية هي أحكام أخلاقية؛ فليس من حُكم قيمة لا يتضمن نموذجية من زاوية معينة بالمعنى الذي يتأدى إلى موقف اجتماعي أو إنساني منها، وليس من فعل إنساني لا يُدلَّل به على قيمة أخلاقية بتحقيقها مباشرة أو بتحقيق الوسيلة إليها.

وبالطبع فإن أول دلالة تتكشف مما أوردنا أعلاه، هي الدلالة على أهمية الأخلاق في الحياة الإنسانية، ذلك أن أحكام القيمة التي تحيط بالإنسان وتملأ وجوده، هي أحكام في معنى الطلب والإلزام في شأنه كفرد يهم المجموع، وفي شأن الآخرين الذين يؤثر وجوده فرداً فيهم ويتأثر بهم.

ولا يستطيع الإنسان الفكاك من أحكام القيمة التي يُنتجها والتي يتلقاها، ومن ثم لا يستطيع الفكاك من الموقف الأخلاقي، إلا إذا انفك عن إرادته الحرة وعن الوجود مع آخرين، لأنه عندئذ يغدو بمنأى عن موضوع الأخلاق.

وموضوع الأخلاق هو »ابتغاء النفع العام« أو »الحب لصلاح الجامعة الإنسانية« أو »تحقيق الخير الأسمى« أو »الشعور بالسعادة« أو »الارتقاء عن السلوك الغريزي« أو »تمييز الخير من الشر« أو »ترسيخ مفهوم الواجب« وما إلى ذلك مما سمّاه وأوسعه تنظيراً المشتغلون بالأخلاق على مر العصور. وهي دلالات مترابطة في اقتضاء الحرية التي تتبادل مع المسؤولية الاقتران بها تبادلَ التلازم والتماهي، فمن غير حرية تَمْحَض المرء مسؤوليته لن يمتلك القيمة التي تدفعه إلى الارتقاء عن السلوك الغريزي وتوجب عليه ابتغاء النفع العام وتُشعِره بالسعادة.

ومترابطة في حتمية الوعي بالآخرين، مجتمعات وأفرادا؛ ذلك أنه من دون هذا الوعي لا موجب للحديث عن الأخلاق، تماما كما هو الأمر من دون المسؤولية، فالآخرون يوجبون المسؤولية ويوجبون الأخلاق كذلك، أي يوجبون على كل فرد ما يحقق النفع العام والصلاح والارتقاء والخير والواجب.

لكن أحكام القيمة ليست موحَّدة في المجتمع الواحد، أو لدى الشخص الواحد، فما بالك بتوحُّدها بين مجتمع وآخر.

نقرأ في »الإمتاع والمؤانسة« للتوحيدي »هكذا شأن العرب في جميع الأخلاق؛ أعني أنها ربما حضَّت على القناعة والصبر والرضا بالميسور، وربما خالفت هذا، فأخذت تذكر أن ذلك فَسَالة ونقصان هِمَّة ولين عريكة ومهانة نفس«.

وهنا يبدو أحد أجلى مظاهر التصادم في المجتمعات وفيما بينها، بسبب اختلاف القيم وتحولاتها وتباينها بحسب فهم من تعنيهم تلك القيم وتكييفهم لها، وفقاً لسياقاتهم الثقافية والاجتماعي­ة والمذهبية والنفعية... وما إلى ذلك.

فالعدل ليس واحدا في كل المجتمعات؛ إنه يتعدد، ومثلنا الشعبي يقول: »اللي نحبه نبلع له الزلط«، ولن يرى العامل الفقير أو يجب ألا يرى -من وجهة أو أخرى- العدل، بالمعنى الذي استقر لدى الأغنياء وأرباب العمل الذين يعمل لحسابهم.

والممدوح الذي يُتنفَّع بمديحه، لا يعني المديح لديه ما يعنيه لدى المادح، ولا يعني عندهما ما يعنيه عند من لا صلة له بموقعيهما.

وأذكر في هذا الصدد بحثا لطيفا لصديقنا العزيز الدكتور فضل العماري، تناول فيه »الحنشلة والحيافة«، ويعنيان احتراف الإغارة والعدوان من أجل السرقة، وكان يدلل بنصوص شعرية، تمتدح بطولة »الحنشولي« و»الحايف«، وتصفهما بالإقدام والشجاعة والمغامرة والقيادة، على طريقة الشعراء الصعاليك قديماً!

وها هي الأمثال الشعبية، التي نتداولها بوصفها نماذج أخلاقية، تطفح بالأنانية والانتهازي­ة والفئوية والإقصاء، وهو ما يمكن قوله في شأن المنتجات الثقافية الأخرى من شعر ومرويات.

ولا يقتصر اختلاف القيم الأخلاقية وتباينها على المجتمعات وفيما بينها، بل تختلف وتتباين لدى الفلاسفة والمنظِّرين.

فمن القول بموضوعية القيم الأخلاقية واستقلالها عن موقف الذات التي تحكُم عليها، إلى القول بذاتيتها لأن مرد فهمها والحكم عليها إلى ذوات متغايرة.

ومن القول بمعيارية الأخلاق وخضوعها لكليات ومطلقات تصدُق عند كل الناس وعليهم، إلى القول بنسبية الأخلاق تبعاً لتعلقها بالعوامل الثقافية والتاريخية والشخصية.

وقد نذهب إلى ضبط الأخلاق وتوحيدها بضابط الدين ووحدته، ولكنا نواجه تنازع الدين مذهبياً وإيديولوجي­اً، وممارسة العنف والفرقة والاستغلال باسمه.

وليس العقل أقوى من الدين في تنصيبه حكماً على الأخلاق، وضابطاً لتوحيدها ومعياريتها، فهو الآخر سبيل نزاع واختلاف لا ينتهي؛ لأن العقل عقول متصارعة ومحتجَزة داخل تقاطبات الذات والموضوع، والأداتية والغائية، والنسبي والمطلق... دونما نهاية.

هكذا، لا تبدو القيم الأخلاقية مأزقاً، بقدر ما تبدو في مأزق التلاعب بها، واستخدامها والعبث فيها. وحين تكون القيم الأخلاقية في مأزق فهذا يعني أن الإنسان في مأزق؛ إذ هو -عميقاً- ضحية تلاعبه بها وعبثه فيها و»انتهازيته« لها، ونجاته الجزئية والنسبية ليست نجاة فعلية له بمعايير الكل الذي يستمد الجزء منه معناه وقيمته.

لابد، والحالة هذه، من تفكيك التطابق بين الثقافة والأخلاق، الذي سبَّب التلاعب بالأخلاق، وذلك بممارسة النقد للثقافة -أي للذات- من موقع »الآخرية«، نقداً يفضح ما تنطوي عليه من التناقضات، ويكشف حمولتها من الأنانية؛ فالموقف الأخلاقي لا يتعرَّف إلا في ضوء العلاقة بالآخر.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia