Al-Watan (Saudi)

صناع البهجة والجمال في أرضنا الطيبة كان لا بد لذاكرة الوجد أن تستحضر شخصيات من ثرى هذه الأرض، نهضوا ذات أزمان جميلة بصناعة البهجة، يجدر بنا اللحظة أن نتذكرهم

-

بدأت أطياف البهجة وتجليات الفن تتسلل من جديد إلى فضاءاتنا الساكنة منذ ما يقارب الأربعين عاما، كانت أولى صباحاتها تسيقظ بعد ليلة مفعمة بالفن والألق، على جلبة رجال »مستنفرين بالشدة«، طمسوا منذ البدء الملامح العذبة لوجوه الليلة الفارطة!.

المهم، أن زمنا مشعّا بالدعة والعذوبة بدأ يلقي أول تراتيله على أفق بلادنا، فإذ بنا نسمع من جديد ألحانا شجيّة لعازف بيانو في ليلة عاصمية مستغرقة في موسيقى الشجن الكلاسيكي العذب، وإذ بنا نلتقي بفناني الغناء والطرب »لدينا«، الذين كانوا نجوما متوهجة في سماءات بعيدة عنا، نتابع أخبارهم وغيرنا يستمتع بهم وبشدوهم زمنا طويلا.

وفي لحظة أخرى، نجدنا نطل مجددا على جمهور محلي خالص، غارق في تفاصيل مسرحه حد التطهير الأرسطي العريق! بدأ الحي يشرع نوافذه لاستقبال أشعة الحياة الطبيعية المطمئنة، وبدأ الشارع العتيق يفتح »محلاته« ومقاهيه الزاخرة بتمتمات الشجن ونشيج الأطلال المبتلة بنداوة الأنغام. وحين كان الأمر بهذا التجلي الآسر حقا، فكان »لا بد« لذاكرة الوجد والوجود أن تستحضر شخصيات من ثرى هذه الأرض المباركة، نهضوا ذات أزمان جميلة بصناعة البهجة والجمال. يجدر بنا اللحظة أن نتذكرهم، وأن نبحث عن أطيافهم الخالدة، وأن نجدد عهدنا بإجلال وتقدير هاجس الجمال الذي يسري في أوردتهم النقية، ثم نلقي على أرواحهم أعذب عبارات الشكر والامتنان، لتكفلهم بصناعة البهجة والترفيه بجهود ذاتية جادة وصادقة، كما تحاول أن تفعل الآن مؤسسات مستحدثة ذات صفات اعتبارية رسمية، وميزانيات مشبعة.

أول صنّاع البهجة في زمننا الجميل كان طلال، و»إذا قلنا طلال، فلا شك أنه طلال مداح، إذ لا طلالا يطل بالعذوبة والسحر الحلال غيره».

طلال الذي كان صوت هذه الأرض بناسها وكائناتها وأشجارها وأطيارها، وكان صوته نداء سريا للعشق والسمو، وكانت الورود حينها تعرف صوت طلال، فتبتل بتلاتها بالندى الخجول،

وتميل كلها صوب طلال، فيغازلها العاشق الأصيل:

»وردك يا زرع الورد من غير ما يتكلم«، فتوشوش في أذنه أن تظل فلا تقطف، ليطمئن مستقرها في أشرف أرض، ثم يتسجيب لإغوائها طلال، ويطلق في وجه رقتها غناءه الخالد: »وطني الحبيب وهل أحب سواه..؟«.

وهناك بين الشرق ووادي حنيفة، كان نداء آخر يقوم بمهمة صناعة البهجة إياها، بصوت حنون دافئ منطلق إلى أبعد مدى، في سبيل إطلاق كل الطاقات الممكنة للحواس الغارقة في لذة اكتشاف المشاعر البكر الأولى للوجد والحب، وشجن ليس له في كل الأرض حدود. عيسى الأحسائي يجلس في منتصف الروح، يحتضن عوده الساحر، يقرر كعادته أن يجعلها ليلة لا يعيش فيها سواه، ومن حوله يرددون تراجيع الوجع: »بين الشميسي والسبالة/ قاعد مرتني غزالة/ ظليت واقف تقول مجنون/ محتار ودموعي يهلون/ والله لولا الناس يمشون/ لاقول وقف يا ريش العين«، فيعم المكان ذهولا وفتونا لا يباح ولا يستباح!

وفي شرفة فندق عتيق يطل على الشاطئ الغربي للمدينة العروس، كان هناك صانع آخر للبهجة والجمال،إنه البدر بن عبدالمحسن، في مواجهة البحر، أمامه صفحة بيضاء وقلم فاخر، بهما يظل

يرتب أحوال العاشقين في«البلاد»، يكتب لهم بيانات الولع واللقاء واللهفة والفراق والفرح، حتى إذا ما التقوا بحبيباتهم استخدموا معهن أي بيان يحتاجون.

هو الذي لا يكتب بياناته الأثيرة إلا عبر صور مكثفة تحاكي تعقيد الداخل الإنساني: »الله يعلم إني حاولت.. حاولت/ أسند على كفي السما.. وأناظر الشمس«، وعبر تقويض هائل للعلاقات المألوفة: ينشد من شرفته للبحر وحبيبته الكلية: »ودي أنسى.. ليلة وعدك.. أنسى وعدك.. ما أجيك/ ويش يضرك لو أخونك مرة.. واختارك عليك!«

وفي الجانب الآخر، صوب الصحراء ونخيلها وأصدائها وأساطيرها، ثمة شاعر آخر من صناع الجمال المبهج كله، يحتسي قهوته »المرة المستطابة ممزوجة باللظى« على كثيب رملي، مقلبا مواجعه«الثمينة»فوق أشجار الغضا، الشاعر محمد عواض الثبيتي، أعظم من قال شعرا في الزمن الحديث لجزيرة العرب، سيد البيد الذي جعلته الذوات المحلية نصبا معلقا فوق الجراح العظيمة، ليكون سماءها وصحراءها وهواءها الذي يستبد فلا تحتويه النعوت. كاهن الحي المترع بلهيب المواويل، فيجعل من دم الراحلين كتابا من الوجد، يستقرئ أسرار الرمال ليغني هزيعا من الليل والوطن المنتظر. غناء شجيا، يبهج المفتونين بالكلمات واللغة والأسرار الثمينة، فيسيل ماء الرغبة راعشا غزيرا، تستحيل معه صحراؤنا أنهارا وعيونا وواحات من الوجد!

أما خامس صناع البهجة في أرضنا الطيبة، فقد ترك أقرانه الجميلين يبهجون الخلق، وهم على الروابي والشطآن، وفي السهوب والحقول البعيدة، مقررا أن يصنع بهجته على طريقته الدرامية الخاصة، في الواقع المعاش. البهجة ذاتها التي شعر بها، وأشعر بها وهو يقتحم بجرأة فنية ساخرة أتون الواقع، محاولا استدراجه إلى ساحات النقد والمراجعة، من أجل صياغة واقع جديد يمور بالتواد والوعي والتكافل والثقافة والحوار: الفنان ناصر القصبي، الأيقونة الفنية الأكثر تأثيرا وألقا في شاشاتنا التلفزيوني­ة «المحلية»!

ولا شك -أخيرا- أن لهؤلاء المبهجين الجميلين امتدادات متنوعة في مساحات البلاد، ربما يأتي الحديث عنها و«عنهم« في نثارات مبهجة قادمة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia