Al-Watan (Saudi)

عصفور جوني وشيخوخة القبيلة

-

سقط عصفورٌ في جحر لا يزيد اتّساعه على أربعة بوصات تقريباً، بينما يصل عمقه إلى قرابة ثلاثين بوصة. كان الجحر في جدار أسمنتيّ تحت البناء، فحاول العمّال إخراجه بشتّى الحيل دون جدوى. ولكنّ صبياً كان واقفاً بالقرب منهم استطاع الوصول بعد ذلك إلى وسيلة يخرج بها العصفور، فماذا فعل؟

لقد جاء الصبيّ (جوني) بدلوٍ مملوء بالرمال. وأخذ يصبّها ببطء في الجحر، وكلّما زاد امتلاء الجحر بالرمل علاه الطائر فارتفع بذلك. بعد ساعة من العمل الصبور استطاع جوني أن يلتقطه بيده من الجحر وينقذه.

هي قصة رواها عالم الرياضيات هاي روتشليس في كتابه (التفكير الواضح). ولكنّي أتساءل كقارئ، ما الذي أنقذ الطائر حقاً؟

ماذا لو كان انهمار الرمل أسرع ممّا ينبغي؟ أو كانت حركة الطائر أبطأ ممّا يجب؟

ثمّ ماذا لو أن ما هو قابعٌ في الجحر ليس طائراً، ماذا لو كان فرداً من البشر؟ أو ماذا لو كان مجتمعاً أو أمةً منهم مثلاً؟

رغم أنّنا من آخر المجتمعات التي صبغتها آثار العولمة إلا أنّ التيّار الذي امتطته إلينا كان متسارعاً على نحوٍ لا نظير له تقريباً.

من أمثلة ذلك أنّ نفوذ (العائلة الممتدّة) لدينا بدأ في الانحسار بشكل سريع. وصارت (الأسرة النووية) هي وحدها ما يعوّل عليه في التأثير التربوي. اضطرّ الناس إلى مغادرة بيئاتهم الأصلية والانتقال للعيش في مدن ضخمة متغوّلة تسمح بعيشهم فيها بأقل قدر من التماسّ المباشر، كما اعتمدوا على التقنيات السريعة في التنقّل والاتصال. فقد الأعمام، والأخوال، فضلاً عن الجدّين أهمية دورهم وسطوته في رعاية الطفل وحمايته. صار من الممكن أن ينشأ الطفل تحت إشراف شخصٍ بالغ أو شخصين على نحوٍ معزول تماماً دون أن يثير هذا حفيظة أحد على الأغلب.

ما سبق يمثّل في نظري أحد أهمّ العوامل التي أسهمت في ارتفاع نسبة العنف العصابيّ ضد الأطفال في مجتمعنا. لم يكن بمقدور الوصيّ على الطفل أو حتى والده ووالدته الانفراد به لفترات طويلة في حيز صغير يمكّنه من فعل ما يريد دون ملاحظة الرقيب الاجتماعي مثلما هو متاحٌ الآن.

لا تخلو أيّ بيئة من أشخاص عصابيين خفت في نفوسهم الرادع الوجدانيّ الذي يحول بين أذاهم وبين الآخرين، لا سيما إن كان أولئك الآخرون أضعف منهم. كان هناك ما يعمل كرادع مهمّ في المجتمعات التقليدية تُقلّص به آثار وجود تلك الفئة، وهو الرادع الاجتماعيّ الذي يجبر المرء على إعادة حساباته ومحاولة التوافق مع القيم السائدة من أجل الاندماج وتفادي النبذ. تعمل (العائلات الممتدّة) كرقيب جيّد لصالح الطفل من حيث انكشاف الأمر لها أولاً، ثم قدرتها على أداء دور موصّل تنفذ منه رقابة المجتمع ككلّ بشكل وقائي غالباً وعلاجي أحياناً.

ظاهرة انحسار تأثير العائلات الممتدّة ونشوء لأنّ أفرادها كانوا فاعلين في التطوّر ومنخرطين فيه منذ البداية. جعلتهم مرونة حركتهم إلى جانب قدرتهم على استيعاب التغيّر، سبّاقين إلى معالجة كل عرض جانبيّ يطولهم من عمليّة التحديث.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia