Al-Watan (Saudi)

زيارة ترمب وإشكالات البراء

-

ما تم الاصطلاح عليه بعقيدة الولاء والبراء: حكم شرعي منصوص عليه بقطعي الثبوت والدلالة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، في آيات وأحاديث كثيرة، كقوله تعالى في موالاة المؤمنين ﴿ وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِناتُ بَعضُهُم أوَلِياءُ بَعضٍ يَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقيمونَ الصَّلاةَ وَيُؤتونَ الزَّكاةَ وَيُطيعونَ اللَّهَ وَرَسولَهُ أوُلئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ﴾ التوبة: 71، وقال في البراءة من الكافرين: ﴿يا أيَُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذُوا اليَهودَ وَالنَّصارى أوَلِياءَ بَعضُهُم أوَلِياءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ ﴾ المائدة: 51، والعمل بهذا الحكم مما يسهم في تقوية اعتصام الأمة بدينها وتعلقها بربها، وشعورها بالتميز والكبرياء والعظمة حتى في أصعب أوقات ضعفها وتوالي الهزائم عليها؛ الأمر الذي يجعلها عصية على الذوبان في الأمم الغالبة، مالكة القدرة على النهوض بنفسها وما تحمله من قِيم حال ظهور النَُهْزة؛ متمكنةً وإن طال الزمن من استكمال شروط نهضتها؛ كما أن التمسك به من شأنه إبقاء ذاكرة المسلم حاضرة بأن الخلاف بينه وبين مخالفيه هو في تكذيبهم لله عز وجل وتكذيبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو شعور يبني فاصلا طبيعياً يحدد مدى ما ينبغي أن تصل إليه العلاقة والعاطفة بين المسلم والكافر؛ كما يقدم بيانا من علام الغيوب بحقيقة ما تتضمنه نفوس كبرائهم وقادتهم من مشاعر تجاه المؤمنين وإن أبدوا غير ذلك في ظاهر أقوالهم وأفعالهم ﴿ما يَوَدُّ الَّذينَ كَفَروا مِن أهَلِ الكِتابِ وَلَا المُشرِكينَ أنَ يُنَزَّلَ عَلَيكُم مِن خَيرٍ مِن رَبِّكُم وَاللَّهُ يَختَصُّ بِرَحمَتِهِ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظيمِ﴾ البقرة: 105.

ومع ذلك فهذا الحكم لا يمكن أن يكون ذريعة للعدوان على الغير وانتهاك ما أثبته الله تعالى لبني آدم من تكريم ﴿وَقاتِلوا في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يُقاتِلونَكُم وَلا تَعتَدوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعتَدينَ﴾ البقرة: 190، أو انتهاك ما شرعه للمعاهدِين من حرمة ﴿وَأوَفوا بِعَهدِ اللَّهِ إِذا عاهَدتُم وَلا تَنقُضُوا الأيَمانَ بَعدَ تَوكيدِها وَقَد جَعَلتُمُ اللَّهَ عَلَيكُم كَفيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعلَمُ ما تَفعَلونَ﴾ النحل: 91، كما أن الإيمان بالولاء والبراء لا يعني المجازفة بالنفس أوالمخاطرة بالأمة في مواجهة من لا قبل لها بهم عتاداً وعُدّةً وعددا: ﴿وَأنَفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأيَْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأحَْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ البقرة 195، والتهلكة كما تكون في الإحجام في غير موضع الإحجام، وهو مقتضى ما ورد في سبب نزول الآية، فكذلك تكون التهلكة في الإقدام في غير موضع الإقدام كما يدل عليه السياق الذي وردت الآية فيه؛ فمن جعل الولاء والبراء في الاقتحام بالأمة ما لا قِبل لها به فقد سعى في إهلاكها، وخالف قول الله، وعارض فعل رسوله صلى الله عليه وسلم وخالف منهجه.

أما مخالفة قول الله تعالى: فإضافةً إلى ما تقدم من تحريم الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، يقول عز وجل: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أنََّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ ألَْفٌ يَغْلِبُوا ألَْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ الأنفال 66، فإذا كان جيش الأعداء أكثر من ضعف عدد جيش المسلمين وعدتهم فقد خفف الله عن المؤمنين وأذن لهم سبحانه في اتخاذ السُّبُل لرد العدوان عنهم بغير القتال الذي تتحقق به هلكتهم واجتثاث شوكتهم، ومن فهم من الآية غير ذلك فقد عطلها، وذهب إلى الإيمان ببعض الكتاب دون بعض.

وأما فعل رسوله صلى الله عليه وسلم فالوقائع في تحاشيه قتال الأعداء مِلْءُ سيرته العطرة مكيها ومدنيها، فأما المكيُ فأشهر من أن أعُرِّف به هنا، وأما المدني فكحَفْرِه الخندق تجنباً لقتال الأحزاب، إذ كانوا أضعاف المسلمين عتاداً وعددا، ورجوعه عن حصار الطائف حين كان المتوقع دون فتحها فوات النفوس وإضعاف الحال.

ولا يترتب على الإيمان بعقيدة الولاء والبراء منع الصلح مع الأعداء، أو مداراتهم، أو كف شرهم بالمال، أو البيع والشراء عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أوَْفىَٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجَْرًا عَظِيمًا﴾، ومع هذا الجند المستميت المبايع لربه عاهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة على عقود ظاهرها الحيف على المسلمين، حتى قال عمر رضي الله عنه مستجلياً الأمر من رسول الله بعد أن عظم استشكالهم لما ورد فيها: ألست نبي الله؟ ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ فلم نعطي الدنية في ديننا؟ ووجه بنفسه بين المسلمين وهو يرسف في أغلاله، مع أنه جاء قبل أن يفرغوا من الوثيقة، لكن سهيلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: »هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، والله لا أصالحك على شيء«، وقال النبي لسهيل (أجزه لي) فأبى سهيل أن يجيزه.

والأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينقضي زمنها، وليست لجيل دون جيل؛ ولا لطائفة دون طائفة؛ وما فعله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لا يعارض آيات الولاء والبراء ولا ينسخها؛ لكنه يفسرها ويبين عظم المساحة التي جعلتها الشريعة للقائم بسياسة الأمة كي يقيها ما يستطيع من مخاطر ويدفع عنها ما يمكنه من شرور ويجلب لها مع ذلك المصالح والمنافع، ما دام عاملا في كل ذلك بما يحفظ عليها دينها أصولا وفروعاً، مقيما فيها شرائع ربه غير سامع في دين الله لومة لائم.

ومجموع آيات القرآن إذا رُدَّ متشابهها إلى محكمها، وتم تفسيرها بأقوال النبي وأفعاله: توضح ما يمكن للأمة أن تفعله في حال قوتها وما تجتنبه في حال ضعفها؛ فكمال الدين يقتضي صلاحه لقيام الأمة به وقيامه بالأمة في جميع أحوالهم ضعفا وقوة، وغنى وفقرا، ووحدة وافتراقا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia