Al-Watan (Saudi)

كليمنصو رجل سياسة يعشق ميادين الحرب وتشرشل يجمع العبقرية والمثابرة

النمر يأتي إلى السلطة متأخرا رجل دولة ممتاز بصورة مذهلة

- أبها: محمد الدعفيس

يواصل كتاب »القيادة العليــا« الصادر عن دار مدارك البحث في تشابك العلاقة بين القيادة والجندي وبين المدنيين والعســكري­ين، وبعد أن تناول إبراهــام لنكولن كنموذج، يعرّج اليوم على جورج كليمنصو وونستون تشرشل. أتــى النمر، كمــا كان يُعرف أو جــورج كليمنصو بعد عام 1903، إلى الســلطة متأخرا. قضى ثلاث سنوات ونصف وزيرا للداخلية ثم أصبح رئيســا للوزراء بين عامي 1906 و1909، ولم يعد للحكومة مرة أخــرى إلا في 17 نوفمبر 1917، عمل رئيســا للوزراء حتى يناير 1920 بعد أن قرر الترشّح لرئاسة جمهورية فرنسا إلا أنه هُزم. في عام 1917، عندما عاد لمنصب رئيس الوزراء، كانت فرنسا تمر بأكبر أزمة حتى ذلك التاريخ. كان في الـ76 وجعبته مليئة بعدد كبــير من العداوات، وقال لاحقا للجنرال إدوارد سبيرز: - كانت لديّ زوجة فهجرتني، وكان لي أبناء فانقلبوا علي، وكان لي أصدقاء فخانوني. لا أملك الآن إلا مخالبي، وسوف أستعملها. خلافا للنكولن وتشرشل، صنع كليمنصو حربا وسلاما هشّا، إلا أنه حقيقي. وقاد دولة عانت ويلات حرب مدمّرة، حيث بلغت حصيلة ضحايا فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى 1.385.000 قتيل و3.044.000 جريح. كانت الخســائر جســيمة بدرجة يصعب تصوّرها. إذ كان لفرنسا خلال سنوات السلم جيش قوامه 823.000 فرد بينما عبأت للحرب ما مجموعه 3.781.000 رجل، لذا فإن خسائرها خلال فترة الحرب كاملة بلغت تقريبا قوتها العسكرية الأولية بأكملها. كان على كليمنصو خلال فترة رئاســته لمجلــس الوزراء أن يشــحذ الهمم ويرغّب في القتال جيشا ظل ينزف ثلاث سنين بلا انقطاع. شــاهد كليمنصو ما تتعرّض له فرنسا من هجوم ألماني خلال ربيع وأوائل صيــف 1918 وهي معركة اســتُخدمت فيها، وبتأثير مدمر، أســاليب قتالية طوّرت وأتقنت في أثناء معارك الدفاع الباسلة في الجبهة الغربية، وسعى النمر حينها للحفاظ على تحالف مضطرب مع بريطانيا والولايات المتحدة. عاد كليمنصو للسلطة. وفي 19 نوفمبر 1917 خاطب مجلس النواب قائلا »كل شيء في فرنسا ينزف.. من أجل مجدها.. حان الوقت لأن نكون فرنسيين، فرنســيين ببساطة، ولنقلها بكل فخر. وهذا يكفي.« سيُنظر إلى كليمنصو في سنوات لاحقة على أنه مجرد روح العناد الصاخب وأبو النصر، مثل تشرشل الذي يشبهه في عدة جوانب. لقد كان قياديا يتنفس حزمــا وإصرارا، فقد قال داعما قواته العسكرية في مايو 1918 عندما كانت باريس نفسها في خطر: »من الممكن أن يســيطر الألمان على باريس وذلك لن يوقفني عن صنع الحرب. ســنحاربهم في اللوار وبعدها في جارون إن اضطررنــا لذلك وحتى في جبال البرانس. وحتى إن طردنا من البرانس، ســنواصل الحرب من خارج فرنسا. أما فيما يتعلق بصنع السلام، فلا! لن يستطيعوا الحصول علىلى ذلك مني.« كان كليمنصو رجلا منظما. يســتيقظ في الرابعة صباحا ليمارس تمارين منشطة للعضلات. اعتاد أن يتناول الغداء في البيت ويخلد للراحة مبكرا حوالي التاسعة مســاء. كان رجلا حادّّد الطبع يعرف نفسه جيدا، لذا يحتفظ بقراراته الشخصية لمدة 24 ساعة، ليسمح لعقله بالتغلّب على غضبه. كان انضباطه وتنظيمه الشخصي أمرا غير عادي، وكان حريصا على زيارة الخطوط الأمامية، وبالطبع سهّل قرب الخطوط الأمامية من باريس تلك المهمة. كما أن نظام السكك الحديدية الممتاز سهّل أيضاّ الرحــلات للقطاعات الأخرى نحو الخــط الأمامي. وقدقضى وقتا أطول في الخطوط الأمامية - وفي نطاق مرمي النيران أحيانا - أكثر من أي قائد آخر توجد لدينا عنه سجلات. وأصبح منذ يناير 1918 يقضي في المتوســط يوما واحدا وأحيانا أكثر من يوم كل أسبوع، فيفيفيفيفي­فيفيفيفيفي­فيفيفي الخطوط الأمامية. ويرجع الأمر جزئيا لرغبته في التواصل مع القادة العســكريي­نين فيفيفيفيفي­فيفيفيفيفي­فيفيفيفيفي­فيفيفيفي مقرات قيادتهم، وليأخذ معلوماته مــن الميدان مباشرة، كما كان يرغب بالتثبت من تنفيذ التوجيهات التي تصدر، وكذلك رفع الروح المعنوية للقوات والقائد نفســه. إن منظر الرجل العجوز الأبيضالأل­أبيض الشعر في الخنادق، وعصاه في يده، وشاربيه الكثيفين، يحتوي علىلىلىلىل­ىلىلىلىلىل­ىلىلىلىلىل­ىلىلىلىلىل­ىلى دلالة رمزية لأولئك الرجال. لــم يكن مصطلح »الإدارة عن طريق التجــوّل« قد ابتُكر في عصرصر كليمنصو. لقد اســتغرق الأمر ستين أو ســبعين سنة أخرى ليرى النور، إلا أن المفهوم نفســه كان في موجودا. لعل تجربة كليمنصو في العمــل الإعلامي وعمله قبل ذلك طبيبــا في عيادة طبية جعلته يدرك أهميــة المعلومات التفصيلية - معلومات لا يحصل عليها من قراءة التقارير- بل بالنظر إلى عيون الناس، ومراقبة الطريقة التي يظهرون بها أنفسهم والاستماع إلى شكاواهم الصغيرة، ومشاركتهم طريقة عيشهم، وإن كان ذلك لفترة وجيزة. ككل زعمــاء الحرب الآخرين الذي وردت ســيَرهم في هذا الكتاب، يعد ونستون تشرشل رجل الدولة والحرب في القــرن العشرين، دون منازع، وهو يظل رجلا عظيما. كان تشرشــل رجل نظام يمتلك العبقرية والمثابرة، وكان وهــو البعيد بطبعه عن أن يكون أرســتقراط­يا متكاسلا محبّا للعمل، شعاره لمساعديه الإداريين في الحرب العالمية الثانية هو واصلوا العمل. كان طاقــم موظفيه مكونــا على الأقل من ســكرتير خاص وثلاثة موظفين آخرين أو أكثر، يعملون بالتناوب للتمكّن من مجاراة فيض الخطابات، والمقــالا­ت، والكتب التي يمليها عليهم. ولقد كانت ســاعات عمله، في الحقيقة، قاســية على مرؤوسيه، وتمتد كما هي العادة حتى الساعات الأولى من الصباح. لكن هنا أيضــا، أظهر ليس فقط الانغماس الذاتي، ولكن أيضا أسلوبا مكّنه من توزيع عبء العمل الطاحن. الاستيقاظ في الثامنة صباحا، والقراءة عدة شــعر بدافع قوي للاختلاط للالالالال­الالالالال­الالالالال­اختلالاطمع الرجال فيفي جبهــات القتال. ومن الممكن للمرء أن يتأمل أّ أسبابذلك: المخاطر المشتركة تعزّز القيادة إلا أن السياسيين في أثناء الحرب يمرون بتجربة الجنود على فترات متقطّعة. ألمــح كليمنصو بطريقة ما بأن تلــك الزيارات لم تكن تصرفا ينمّ عن التزام، لكنها ذات أهمية محورية لشخصيته كقائد للحرب، ولا ينظر إليها بأنها اســتهلاك غــير مفيد لوقته، لأنها قد تكون الأســلوب الناجع لديه للحصول على المعلومات والتأثير علىلىلى سير الأحداث. ســاعات في السرير - متصفحا الصحف، وتقارير الاســتخبا­رات والبرقيات ومتابعة الاجتماعات وإملاء محاضر الاجتماعات ثم الغداء وقيلولة لســاعة واحدة أو أكثر، مما يســمح له بالعمل حتى ســاعات الصباح الأولى. ويستذكر قائلا: - بهذه الطريقة، أصبحت قادرا على إنجاز عمل يوم ونصف في يوم واحد. وكان يســتمتع وبصورة بهيجة، بوجبات الغداء والعشاء، وكانت أوامره ألا يتم إيقاظه إلا في الظروف الملحة جدا. أظهر تشرشــل شــعورا حكيما بأهمية النظــام والترتيب، سمح له وهو في الســبعينا­ت من العمر في عام 1944، بالمحافظة عــلى برنامج عمل وســفر يمكن أن ينهك شخصا أصغر سنا منه بكثير. شملت شــهية تشرشــل للمعلومات قدرة حصيفة على ضمان وصولها إليه في شــكل قابل للاســتخدا­م. لقد لجأ إلى البروفسور فردريك لاينمان بجامعة أكســفورد (لاحقا لورد شــيرويل)، الــذي كان يمتلك موهبة خارقــة في كتابة الــشروح الموجزة لبعض القضايا الفنية والشؤون المرتبطة بالحرب العصرية، وهي خدمة لا تقدر بثمن لتشرشل الذي كان لديــه اهتمام كبير بالتكنولوج­يا، لكن من دون خلفيــة في العلوم. علاوة على ذلك، كان البروفســو­ر يدير مكتب إحصاء صغير يقــوم بإعداد الخرائــط والبيانات والجداول الدقيقة المفهومة لرئيس الوزراء، مما ســمح له باكتســاب صورة جيدة عن أوجه الحرب العديدة (على وجه الخصوص معركة الأطلسي) التي لــم يكن من الممكن قياســها والحكم عليها إلا بهذه الطريقة، بدلا من تحريك خطوط المعركة. في كثير من الأحيان كانت خدمات بيانات البروفســو­ر التي قدمهــا لرئيس الــوزراء أفضل من العروض الإيضاحية المنحازة المعدة من قبل الإدارات الحكومية المختلفة. عندما يتم فحص سجل تشرشل بمنظومة معايير واقعية، فسيتضح أنه رجل دولة ممتاز بصورة مذهلة، والدليل على ذلك أحكامه السياســية والاســترا­تيجية. لقد أصاب في عام 1938 بمعارضته المبكرة لهتلر في وقت كانت فيه كل الظروف مواتية لمواجهة الدكتاتور الألماني. وقد كان محقا أيضا في الوزن الــذي وضعه لضرورة تمتين العلاقة مع أميركا ومع روزفلــت، لتكوين الحلف الأوثق في التاريخ. كما كان محقا أيضا في الاهتمام بنوايا السوفيات وأطماعهم في أوروبا ودعوته لضرورة العمل على معارضتها. كان سجل تشرشــل على المستوى العملياتي مختلطا. فقد أصاب في تقديره لمتطلبات أنظمة الدفاع الجوي في ســنة 1940 ومرة أخرى في عام 1944 لمواجهة الهجمات الألمانيــ­ة الجوية على لندن وذلك لاستفادته من تجربته السابقة للحرب. ويستحق تشرشل الإشادة لفكرة الإنزال في أنزيو في سنة 1944. (بالرغم من تنفيذها السيئ، إلا أنها كانــت ضربة مهمة في الحملة الإيطاليــ­ة). وفي أكثر من مناســبة، أقدم على خيارات يائســة مثل زجه الموارد الشحيحة لســلاح الجو الملكي للقتال في فرنســا في يونيو 1940 وتأييده لجوبتر (هجوم برمائي شــمال النرويــج)، وإعجابه بالخطة المكلفة للإنزال البريطاني في جزر الهند الشرقية /الهولندية في سنة 1944 أو 1945. ما هو أكثر أهمية من كل ذلك، هو سؤاله اليومي وحثه الدائم للجنرالات لبذل نشــاط أكبر من جانبهم، الأمر الذي أدى إلى أدائهم الجيد لمهامهم. لقد استقرت قيادة تشرشل للحرب كليا على رؤيته الاستراتيج­ية الواسعة، وجزئيا على أسئلته وجهوده لملاحقة كل كبائر وصغائر الأمور المرتبطة بالمجهود الحربي. يتمثل أحد أكبر مســاهمات تشرشــل في الحرب في مقدرته على التعامل مع المســائل غير الواضحة والمعممة التي تمثل مكامن لنضال طويل ومظلم. كان هو من صاغ مصطلحات مثل »معركة بريطانيــا« و»معركة الأطلنطي« التي ظلت مســتخدمة من قبل المؤرخين أكثر مــن نصف قرن بعد الحدث. وقد شــكلت تلك المصطلحــا­ت الإطار المرجعي لمختلف النشاطات العسكرية المترابطة وظيفيا، والتي لا تقع في منطقة أو مسرح عمليات أو أي جهة عســكرية مفردة. وكان تشرشــل يعقد لجنــة خاصة لكل حالة ويقوم بترؤسها بنفسه حتى يضع كل جهاز في الحكومة أمام المسؤولية التي تحددها اللجنة على ضوء الأولويات والمهمات وتحديد المشكلات المهمة. من أعظم مهمات تشرشــل في الحرب العالمية الثانية، وهي مهمة ساعدته فيها خبرته السابقة، إدارة ائتلاف الحلفــاء الكبير ضد هتلر. كان يمكــن لهذا الحلف الكبير المكون من عناصر يائسة وإلى حد ما متعادية ومتعارضة، أن يتصدع بسهولة. وقد واجهت تشرشل مشكلة ثلاثية الأبعاد. في أعقاب سنة 1940 لم يعد هنالك شيء أهم من الروابط بين بريطانيا وشريكيها المحتملين، والحقيقيين بعدئذ، الاتحاد الســوفيات­ي والولايات المتحدة. وقد أخبر البرلمان، بعد سقوط ســنغافورة في أيام فبراير 1942 المظلمة، أن مشــاركة هاتين القوتين »الحقيقتين الكبيرتين الأساسيتين واللتين تهيمنان في النهاية على الوضع العالمي وتجعلان النصر ممكنا، أمر مهم بشكل لم يكن ممكنا من قبل«. فاستعداده لدعم الاتحاد الســوفيات­ي، بالرغم من معارضته الطويلة للشــيوعية، وســعيه الحثيث للحلف الأميركي، وضع الأساس للنصر النهائي. وتكشف مواقف تشرشل بشأن دبلوماســي­ة الحرب مزيجا فريدا من التقنيات والأساليب. كان النظام وليس النزوة هو العنصر المهيمن على آلــة حكومة تشرشــل. وكانت أوامره الصارمة هي أن تنفيذ العمل لا بد أن يقوم عــلى الكتابة ليكن مفهومــا للجميع، كافة التوجيهات مني يجب أن تكون مكتوبة، أو يجب تأكيدها كتابة فيما بعد، وإنني في هذا الصدد لن أقبل أي مسؤولية عن أمور تتعلق بالدفاع الوطني يزعم فيهــا أنني اتخذت قرارات، لم تكن مسجلة كتابة. وكان تشرشل رساما هاويا موهوبا، أسقط رؤاه الفنية على الحرب. فالاثنان يتشــكلان من موضوعات أو ثيمات واســعة، وكما لا يمكن ممارسة الرســم وفقا لقواعد صلبة وسريعــة أو جدول جامــد، لا يمكن إدارة الحرب وفقا لقواعد مســبقة. وإنما علينا استخدام ملكة الإبداع في كل لحظة تماما كما يفعل الفنانون. فرضــت ضرورات الحــرب عــلى القادة مجموعة من الاعتبارات والحسابات التي لا يفهمها حتى أكثر الحاذقين. كتب تشرشل في »أزمة العالم:« - إنّ الحرب لا تعرف التقسيمات الجامدة بين الأعداء والحلفاء، وبين البر والبحر والجو، وبين تحقيق الانتصارات والتحالفات، وبين الإمدادات والمقاتلين، وبين الدعاية والآليات، إنما هي التي تشــكل في الواقع وببســاطة، مجموع القوى والضغوط المؤثّرة في فترة معينة. - الحرب نضال مستمر ويجب إضرامها من يوم إلى يوم. بالنظر إلى عدم ثقته في كل التوقعات، بما في ذلك توقعاته الخاصة أيضا، اعتقد تشرشل أن تكوين الاســترات­يجية في الحرب لا يتأتى فقط من رســم وثائق الدولة لتظهر رؤية شاملة لكيفية كسب الحرب، لكن أيضا من مجموعة من النشاطات التفصيلية التي متى ما تم توحيدها والســيطرة عليها بمفهوم مركزي، تشــكل صورة شــاملة لحقائق الحرب.

 ??  ??
 ??  ?? تشرشل كليمنصو
تشرشل كليمنصو
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia