Al-Watan (Saudi)

صحافة المال والتجهيل

-

بنبرة احتجاج ورفض، يقول الصديق العزيز، داود الشريان، وهو يستعرض تاريخه المهني، إن بدايات الصحافة العربية كانت صحافة أدبية ثقافية، أكثر منها صحافة شمولية مكتملة لكل الأبواب والأقسام. قلت لنفسي وأنا أستمع إليه معترضاً على ذات البدايات: ليت أنها استمرت هكذا أدبية ثقافية على الأقل لقرن من الزمن. لم أكن شخصياً محظوظاً بما فيه الكفاية لأقرأ البدايات العملاقة في »الوقائع« المصرية أو منشورات دار الهلال أو بيت الجبل اللبناني. لكنني كنت طالباً في الابتدائية، عندما كان قريب نسب ومصاهرة يعود إلينا في الصيف من جدة حاملاً إلى إخواني وإلي مجلة »المنهل« على أيام عبدالقدوس الأنصاري، بضعة أعداد شهرية، وكنت خلال العام المكتمل أقرأ العدد الواحد بضع مرات. أكاد أجزم أنني كنت أحفظ كل موادها الأدبية المدهشة عن ظهر قلب. كان العملاق الآخر، أحمد زكي، يصدر مجلة »العربي« الكويتية التي افتخرت ذات زمن بأنها المطبوعة العربية الوحيدة على مر التاريخين الماضي والمستقبل التي دخلت إلى كل منزل. كانت هذه »العربي« وحدها سفيراً عربياً أظن أنه، وبالنسبة لي، كاف وحده عن قراءة مناهج المدرسة المتوسطة والثانوية مجتمعة. »العربي« كانت تغني بمفردها عن كل وزارات التعليم في هذه الخريطة العربية. كانت رحلة تنوير استثنائية في حياة آلاف مدمنيها ذلك الزمن. كان العملاق السعودي، عبدالله مناع يرسم »ماكيت« الأخرى »اقرأ« وفي ذهنه عقلية المنافسة في سوق عمالقة الصحافة الثقافية، وكان، وكما فهمت اليوم، يحاول أن يجعل منها أيقونة البلد، لولا أنه كان محكوماً بقواعد اللعبة ومدى ارتفاع السقف المحلي. في اللحظة التالية من حياتي، ذهبت طالباً للولايات المتحدة. اكتشفت هناك العملاق الرصين في مجلة »نيويورك«. عشرات الصفحات المختزلة لكل علم الاجتماع والأنثروبو­لوجيا، ومن ذهب إلى البعثة ولم يقرأها فقد عاد بنصف بعثة. اليوم، أشعر بالشفقة والحزن على ملايين الشباب العربي الذين لم يؤسسوا لعالمهم المعرفي الأول من باب الثقافة في مفهومها الشمولي الواسع. بداية الجهل العربي الحديث كانت مع قومية »أحمد سعيد« وميكرفون صوت العرب. أكمل عليها العراقي محمد سعيد الصحاف، ثم أطبق عليها الظواهري وابن لادن. أكملت قناة الجزيزة على كل ما تبقى من حطام العقل العربي الهش بزخم المال المؤدلج الذي اشترى كل ذمة للبيع في شوارع بني يعرب. وإلى خمس سنوات خلت، كانت الجزيرة مثل مجلة »العربي« تفاخر بوصولها إلى كل بيت، وكلي أسف إن قلت إلى عقول شباب مقولبة مغسولة لا تعرف الفارق ما بين التنوير وبين التجهيل. صحافة المال السائل لا تصنع أمة.

almosa@alwatan.com.sa

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia