Al-Watan (Saudi)

الوضوح والانتماء وأثرهما في نجاح المؤسسات والشركات

-

نُواجه في حياتنا الاجتماعية مواقف كثيرة، ونقابل نماذج من الأسر الناجحة المترابطة، وفي الوقت ذاته نُصادفُ في مسيرتنا حالات -وإن كانت نادرة- لأسر تفككت بفعل غياب الوضوح، وبالتالي زوال الرابط الذي يجمع أفرادها في منظومة متكاملة وعمل متجانس وتعاون مشترك، لهدف معلوم وواضح ومعروف. لذلك، من الطبيعي أن يعمل كل فرد في هذه الأسرة بمعزل عن إخوته وأخواته، وأن يسعى كلٌ إلى مصلحته الشخصية الآنية والمحدودة، ساعيا إلى بناء عالمه الخاص بعيدا عن الأشقاء، بينما تغلب على الجميع سمات الأنانية والذاتية والنرجسية وحب الذات، دون النظر إلى مصلحة الإخوة والأخوات.

والغريب، أن هذه الأسرة قد تجتمع وتلتقي كل يوم، وقد يجتمع أفرادها في مناسبات وفعاليات، ويحرصون على الواجبات الاجتماعية في الأفراح والأتراح، لكنهم يفتقدون ما يجمع بينهم ويربط بين نياط قلوبهم، ويعزز من انتمائهم إلى هذا الكيان الصغير، وهو الأسرة.

قد يقول قائل: إن ذلك ناتج عن غياب رب الأسرة، وانشغاله بأعماله الخاصة، وسفرياته واجتماعاته، وقد يقول آخر: سببه تخلّي رب الأسرة عن واجباته التي تنحصر فقط في الإغداق المادي على أبنائه، باعتبار أن ذلك كفيل بنجاحهم في الوقت الراهن وفي المستقبل، لكنني أقول، لا هذا ولا ذاك، إنه غياب الوضوح الذي غابت معه معالم الطريق، وتوارت معه البوصلة التي تُحدد الاتجاهات، فكان من الطبيعي أن يعيش أفراد الأسرة الواحدة في جزرٍ منعزلة، وأن يخفت بريق الولاء، مفتاح الانتماء والإنجاز والعطاء.

وبصورة طبق الأصل من النموذج الذي قدمت به مقالي، والذي يراه كثيرون منا في حياتنا اليومية، ينطبق ذات الشيء على المؤسسات والشركات وغيرها من مجالات الأعمال، فالوضوح الذي هو مرادفٌ للشفافية، له تأثيره البالغ في تعميق وترسيخ الولاء للمنشأة من جميع منسوبيها، إذ يشعر الجميع أن لكل فرد دوره المهم والأساسي في مسيرتها، مهما كان هذا الدور محدودا أو جزئيا أو هامشيا، فالولاء شعورٌ يتولد ويتضاعف ويترسخ بالمشاركة والتآلف والعمل بروح الفريق الواحد.

الوضوح له التأثير المباشر كذلك في ثقة واعتزاز الفرد بدوره والفخر بإنجازه، فضلا عن اليقين بأنه جزءٌ لا يتجزأ من هذه المؤسسة أو الشركة، فيظل دائما وطوال مشواره الوظيفي يعبر عن سعادته بكونه عضوا في هذا الفريق الناجح، بل ويظل يروي ويستعرض هذ الرصيد بكل فخر واعتزاز لأبنائه وأحفاده بعد ختام رحلة العمل بالتقاعد.

الوضوح، هو الحافز غير المكتوب لأبناء المؤسسة أو لمنسوبي الشركة، والذي يدفع بهم إلى التنافس الإيجابي فيما بينهم لتجويد المنتج وتحسين الخدمات، بل والابتكار والتجديد مدفوعين بروح عالية من الولاء، وبذلك يتحقق النجاح الكُلّي الذي يُتوّج هذه الجهود، ويُمكّن المنشأة من تحقيق أهدافها وخططها وإستراتيجت­ها، من خلال الوضوح الذي يجعل منها كيانا واحدا متكاملا ثابت الأركان والبنيان، راسخ القواعد والجذور.

وبالقياس على ماقدمتُهُ من نموذج الأسرة في مستهل هذا المقال، ماذا لو غاب الوضوح عن المنشأة أو المؤسسة أو الشركة؟ طبيعي أن تسود الفردية والذاتية، ويخفت الرابط الجماعي، وتتشتت الجهود في كل اتجاه، وفي هذه الحالة، يتركز جهد الموظف في الحصول لنفسه على المزايا والمنافع بأي وسيلة، بينما يتركز عمله في الأداء المظهري والوقتي أمام رئيسه ليحظى بالرضا والتقدير، ثم يركن إلى التكاسل بعد ذلك، بفعل اختفاء الرقابة الذاتية التي تخرج من رحم الضمير الحَيّ، وبالتالي تتدنى مصالح الشركة في سُلّم الأولويات لديه، وتعلو آفة الأنانية الضيقة كنتيجة طبيعية لغياب الوضوح الذي يتولد من خلاله الشعور بالولاء.

من هُنا، تفقد المنشأة أهم مقومات النجاح، وركنا بالغ الأهمية في نجاح انطلاقتها، فقد آثَرَت الانطلاق دون أجنحةٍ سليمة، ودون التزود بمقومات الأداء المثالي، وفي مقدمتها الوضوح الذي يوفر المناخ الصحي للعمل، ويحوّل الشركة إلى أسرةٍ مترابطة، يتسابق فيها الجميع إلى غايات وأهداف تم تحديدها بكل وضوح وشفافية، مع الحرص على الشرح الوافي لجميع منسوبيها بخصوص ما تواجهه الشركة من تحديات أو صعوبات، لتحفيزهم إلى مضاعفة الجهود من أجل تجاوز كل العقبات، لأن الوضوح كفيل بإطلاق القدرات الكامنة لدى الجميع بما يدفعهم إلى التفاني وإنكار الذات، حفاظا على إنجازات ومكتسبات منشأتهم التي تحرص على التواصل معهم بكل صراحةٍ وتلقائيةٍ ووضوح.

وفي ختام هذا المقال، أؤكد بعيداً عن النظريات والفلسفات الإدارية العميقة، وبصورة في غاية البساطة، أن الوضوح يُعدّ عاملا جوهريا لنجاح وترابط الأسرة، وكذلك لتفوق وتميّز المنشأة، فعندما يشعر المنتسب إليها بأنها في الواقع جزءٌ لا يتجزأ من كيانه، ومكونٌ أساسيٌ لشخصيته ووجدانه، سيبادر بكل الولاء إلى تقديم المستوى المثالي من الأداء في كل وقت وحين.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia