Al-Watan (Saudi)

السعوديون والحل العلماني

-

منذ أعوام قلائل اتسعت دائرة الافتتان بالعلمانية، فلم تعد مقتصرة على الليبراليي­ن الذين يهتبلون عادة كل فرصةً ليتغنوا بها، بما يزعمونه من فضائل العلمانية وجمالياتها وما سوف تُقدِّمه للحياة لو أنها طُبِّقت، بل دخل فيها عدد ممن يَنْسِبون أنفسهم عموما للتوجه الإسلامي وبدأوا يترنحون أمام إغراءاتها.

فهذا راشد الغنوشي، ناضَلَ أكثر من أربعين سنة في مواجهة الحكم العلماني في بلاده، وتعرض من أجل ذلك للسجن والنفي والمطاردة، وتعرض أبناء حزبه لمثل ما تعرض له وأشنع، من سجن وتعذيب وتهجير، ثُمَّ لما اقترب من المائدة السياسية وزاحم عليها قال إن العلمانية مجرد إجراءات عملية وليست فلسفة معادية للدين.

رجب طيب إردوغان الرئيس التركي الذي طالما ناهض العلمانية، وحين تَصَدَّرَ المائدة السياسية في بلاده لم يقف عند تطبيق العلمانية اضطراراً وهو يرأس دولةً علمانية يعسر عليه تغييرها، بل أخذ يصرح بأن العلمانية لا تتنافى مع الإسلام، ويدعو قادة الدول الإسلامية إلى تطبيقها في تدخل مضر بسياسات الدول ونظمها، لا يقل في نظري، إن لم يكن أكثر سوءًا وخطراً، عن تدخل السفير العتيبة الذي تضمنته كلمته التي أثارت لغطاً في أحد البرامج التلفزيوني­ة.

كما أن غالب الإسلاميين ممن يتلقبون بالتنويريي­ن، أو الليبروإسل­اميين، وهم تيار حديث نسبياً، في نهاية المطاف

هم علمانيون بدرجات مختلفة وبعضهم متنطعون سابقون دينياً.

أضف إليهم أشتات ممن يُصنَّفون محافظين أخذوا على عاتقهم الدفاع عمن تقمص العلمانية من بعض الإسلاميين، وذلك بتقسيمها إلى علمانية جزئية وعلمانية كلية، وعلمانية ناعمة وعلمانية خشنة، وهي اعتذارات تشكل في تقديري نمطاً آخر من أنماط الافتتان بالعلمانية، أو ذريعة للتهوين من شأن تسويغها وأسلمتها.

وللترنح أمام العلمانية أسباب تختلف من شخص أو تيار إلى آخر، لكن الجامع بينها هو الخلط بين العلمانية وبين الديمقراطي­ة، واعتقاد أن العلمانية وراء الواقع الأوروبي الذي يتصور البعض أنه ناجح في مجال الحقوق والعدالة والمساواة والاقتصاد والاستقرار والتنمية، ويعزون هذا النجاح المُتَصَوَّر إليها.

وعند مراجعة التعريف الأشهر لها وهو فصل الدين عن الحياة، وأيضا عند مراجعة تاريخها البعيد والقريب نجد أن لا علاقة بين العلمانية والديمقراط­ية أو بين العلمانية وقِيَم الثورة الفرنسية التي درج الكثيرون على وصفها بقيم العلمانية، فالثورة الفرنسية كان معظم روادها علمانيون، وكانت في الغاية القصوى من الدموية والظلم والفوضى والاستبداد، وظل هذا هو الحال في فرنسا من سنة 1792 عند قيام الثورة، حتى 1870 عام قيام الجمهورية الثالثة، وقد أظل هذه الأعوام الثمانين حكمُ أربعة من الأباطرة، هم لويس الثامن عشر ونابليون الأول ونابليون الثاني ونابليون الثالث، وكان الحكم علمانيا، وبالرغم من ذلك كان استبدادياً قهرياً.

والاقتصاد الحديث نشأ قبل ظهور العلمانية كفكر بقرن من الزمان وقبل ظهورها كتطبيق بأربعة قرون، ويكفي أن نتذكر أن أول بنوك تم إنشاؤها كانت عام 1397م، في جنوب إيطاليا أي بالقرب من الفاتيكان عاصمة الحكم الثيوقراطي الديني. وآدم سميث أبو نظرية الاقتصاد الرأسمالي وصاحب كتاب ثروة الأمم توفي عام 1790 أي قبل الثورة الفرنسية، أي قبل نشأة الدولة العلمانية.

والنهضة الأوروبية الحديثة ليست ثمرة للدولة العلمانية، فقد بدأت طلائعها في بريطانيا في القرن الثالث عشر الميلادي حسب »فشر« في كتابه »أصول النهضة الأوروبية« أو في جنوب إيطاليا حسب مؤلفي »تاريخ أوروبا العام «

وإذا قدَّرنا أن تسعة أعشار دول العالم البالغة 192 دولة كلها علمانية، وعلمنا أنه لا يوجد من هذا الحجم الضخم من الدول العلمانية سوى عدد يسير من الدول لا يتجاوز العشر تحظى بسجلات شبه نظيفة في مجالات الحقوق والحريات والفساد المالي والإداري، فإننا وبالتأكيد سنصل بطريقة منطقية إلى أن العلمانية ليست هي سبب الصلاح في تلك الدول، إذ لو كانت هي السبب لعم أثرها معظم الدول التي تطبقها.

وقد يُجاب عن ذلك بأن العلمانية لم يتم تطبيقها كما ينبغي في أكثر دول العالم المشار إليها، ولهذا فإن الفشل في مجالات النمو والحقوق والحريات هو نتاج عدم تطبيق العلمانية بشكل صحيح، ولو تم تطبيقها جيداً لكانت سجلات كل الدول المطبقة لها نظيفة وليس القليل من هذه الدول وحسب!.

وهو جواب يكفي في الحديث عن هزاله: أن الجميع يستطيع قوله، فالشيوعي يستطيع أن يقول عن الشيوعية: إن سبب فشلها هو عدم تطبيقها بشكل صحيح، وكذلك أسباب ضعف تأثير إعلامنا في الداخل والخارج، وكذلك تأثيره السلبي، وضعف معايير قياس القوة والأمانة، سبب أصيل في ضعف القيادات الإدارية، وهما شرطان شرعيان في الأهلية للولايات العامة والخاصة.

وفي المقابل فإن كل خير تعيشه بلادنا هو ثمرة للأصل الذي هي عليه والذي يقضي به نظامها الأساسي للحكم، فوحدتها التاريخية نتاج بلادنا على الصعيد النسوي من تفوق عالمي في نسبة تعليم المرأة وقلة المشكلات التي يعاني منها التعليم النسوي مقارنة بجميع دول العالم إلا ثمرة للضوابط الشرعية التي تكتنف أنظمة تعليم البنات العام والجامعي، وما تتمتع به بلادنا ولله الحمد من ضعف في مستوى الجريمة الأخلاقية بين الشباب مقارنة بدول العالم ثمرة من ثمار التعليم الديني والنشاط الدعوي اللذين تختص بهما بلادنا دون غيرها، ولا يغرنك الضجيج حول جرائم هنا وهناك، فهذا الضجيج لا يعبر عن حجم الجريمة بل يعبر عن أثر الإعلام الاجتماعي غير المنضبط في إشاعة الفاحشة ونشرها.

المهم أن العلمانية من حيث التعريف والتاريخ والتجربة ليست مغرية للافتتان بها، لكن النظر إلى عدد قليل من دول أوروبا وأميركا الشمالية ونسبة نجاحاتها إلى العلمانية نتاج خطأ في فهم العلمانية وضعف في استقراء الواقع والتاريخ.

والصحيح الذي تؤيده الشواهد: أن نجاحات تلك الدول هو نتاج استفادة من تجارب فشل مريرة وحروب خطيرة أدت بهم إلى صرامة في الأنظمة وعدالة في تطبيقها ومسؤولية حقيقية عن نتائجها، وإن يوجد في أي أمة استثمار التجارب الفاشلة والأنظمة الواعية بمصالح الأمة والتطبيق العادل والمسؤولية الكاملة فإنها ستنمو وتتألق في سماء التحضر الدنيوي أياً كان اعتقادها، أما الأمة التي تتعامى عن هذه العوامل ولا يجد مفكروها مفزعا إلا اتخاذ نظامها الديني مشجباً لتعليق نقائصهم فلن تزداد مع مرور الايام إلا انمحاقاً.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia