Al-Watan (Saudi)

تجربتي التلفزيوني­ة

-

لازلت أتذكرها بالضبط. هي ليلة وصولي الأولى البكر إلى شقة رفيق في مدينة شيكاغو الأميركية. كانت فكرة »الكيبل« التلفزيوني الذي يضعك في مواجهة عشرات القنوات الأرضية هي الأكثر إدهاشاً في مخيال قروي لم يصل حتى بث القناة السعودية الثانية إلى سطوح منزله في قرية نائية بشرق عسير. وعلى ما أتذكر، كانت أول لحظة في حياتي أمسك فيها بـ»الريموت«. إنها الفكرة التي غيرت حياتنا جميعاً على هذا الكوكب وإلى الأبد. ولست مبالغاً إن قلت إن تجربتي في الغربة الأميركية كانت »تجربة تلفزيونية« تفوق كل تجاربي الأخرى في ذلك المهجر. ودعك من قنوات الأخبار والسياسة. أميركا في تجربتي التلفزيوني­ة كانت مجتمعاً مشطوراً إلى النقيضين: قنوات الفنون الصارخة وأخرى للدين وتجار خرافاته وأساطيره، يذكر كل من عاش في أميركا نهاية الثمانينات ومطلع ما بعدها ذروة الصعود الصاروخي للقس الأميركي الشهير »جيمي سواجارت«، وكيف كانت شعوبها تتسمر أمام شاشة محطته التلفزيوني­ة مساء كل أحد لمتابعة خطابه الوعظي الطويل. كان يبكي فيبكي معه آلاف من أنصاره وأشياعه على المسرح، وهو يقول لهم إن الرب كلمه ليلة البارحة عاتباً على الانحطاط الأخلاقي للشعب الأميركي. كان يقول لهم في كل مواعظه إن »الرب« يطلب التبرعات من أجل خدمات الكنيسة، وكانوا يتدافعون عليه بملايين الدولارات التي كان يعلن أرقامها بدء تراتيل كل حلقة. كنت مدمناً متابعته، إذ كنت أراه سهرة فكاهية لتحالف تسويق الدين بالبكاء الجماعي واتصالات الرب وهرطقة الخرافات. عشت هناك حتى ليلة سقوطه الأخلاقية التاريخية، حين ثبت أنه يمارس رذيلة اللواط مع أطفال بذات الكنيسة، كان خبراً هزم أميركا من الماء حتى الماء الآخر، الكارثة الأهم أنه حين خرج من ذات المحطة ليعترف ويعتذر لم ينس البكاء الحاد، والأدهى من ذلك أن نفس الحضور المسرحي بكى معه. وحين أعلن للملأ أنه سيذهب لعزلة »تطهير« طويلة، حزنت لأنني فقدت متعة ساعات أسبوعية من الضحك على الجهل الجماعي وبيع الخرافة. هو للعلم، نفس القس الذي حاوره الشيخ المفكر، أحمد ديدات، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه. والخلاصة أن تجربتي الطويلة مع إدمان التلفزيون تبرهن أن ربابنة تسويق الخرافات باسم الأديان في كل مذهب وفصيل ومعتقد هم أول من يركب أمواج الفضاء حتى منذ زمن الكيبل. هذا النوع من الفضائيات هو الأرخص تكلفة إذ لا يحتاج لأكثر من غرفة وبضعة أسلاك وفي أكثر الأحوال تعقيداً إلى كاميرتين. لكنهم الأكثر دخلاً والأسرع إثراء لأنهم إما يتكلمون مع الرب كما كان يقول هذا القس، أو أنهم الوسيط الأقرب إليه كما يشيع الآلاف من البقية.

almosa@alwatan.com.sa

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia