Al-Watan (Saudi)

من أجل موسم ثقافي حقيقي

-

إثبات (الحضور) في مواجهة الحسرة من الغياب يتضمن الكثير من المواقف والتجليات المتنوعة.. فالحضور لمجرد الحضور، يشكل أزمة حقيقية في الخطابات التي تحتفي بالمتغيرات والتحولات.

كعالم الثقافة (على وجه الخصوص)، من خلال مؤسساتها العامة والخاصة في البلاد. إذ المسألة تتعلق بالأفكار والنظريات والمقولات، التي تزدهي بالتحولات والمتغيرات، وترفض السكون والثبات. فليس مقبولا من العلماء والمفكرين والمثقفين والأدباء أن يكرروا المقولات ذاتها، ويناقشوا الأفكار نفسها، التي كانت دعائم رسائلهم الجامعية في وقت بعيد من الزمن، و(يحاضروا) عن الموضوعات التي حاضروا بها في أول عهدهم بالمنصات، وفي الوقت نفسه فليس جديرا بالشعراء أن (يجتروا) الأشكال الشعرية ذاتها، التي صيغت نصوصهم الأولى بها، ولا بالروائيين أن يعتادوا على جعل الرواية متنفسا لهم، ووثيقة لمواقفهم الأيديولوج­ية والسياسية من خلال نص سردي فقير (في كل مرة)، سواء في الأدوات والتقنيات الروائية، أو في الرؤى والدلالات!

يمكن قبول (إثبات الحضور..فحسب) للسياسيين في (قممهم)، أو لعلماء الشريعة الأصوليين في جلساتهم الرسمية، أو لأفراد المجتمع في مناسباتهم الاحتفالية الكبرى، إذ إن حالة (الظاهر) في تلك المشاهد تغني عن (ما يقبع خلف ذلك الظاهر من آراء جديدة أو أفكار مغايرة تلفت النظر، وتسجل لهكذا حضور (قيمة مكتسبة)!ولكن الحالة الثقافية لا تتسق مع ذلك النمط الذي يجعل للحضور (فقط) قيمة في ذاته، ولو كان هذا الحضور ضعيفا وهشا وعابرا وبلا أثر!

تؤكد الوقائع أن تجليات المكون الثقافي لدينا ترتهن إلى الحضور (كقيمة بذاته)، وليس إلى الحضور الذي يخالف الأطر المألوفة الساكنة، ويتماهى مع اللحظات المغايرة في تيار الحياة وتجارب البشر واتجاهات العلوم والفنون والآداب!

..الحضور الذي يصنع الدهشة، ويبث الدم في العروق المجدبة، ويعيد في كل مرة ترتيب الحياة من جديد!

ولكم أن تتابعوا معي ما يقدم في المؤسسات الثقافية في بلادنا من محاضرات وندوات وأمسيات ودورات ومعارض، وما يصدر من مثقفينا من (مقولات) و(تغريدات)، لتجدوا فعاليات متكررة نمطية مهادنة على غرار ما يقولون: (شوفوا لنا أديب حداثي مقبول، وآخر تقليدي، ليعرف الناس أننا نقدم الرأي والرأي الآخر- ولو كان الرأي في واد والرأي الآخر في واد-السريحي حداثيا ومريسي الحارثي تقليديا، يصلحان لهذا الإثبات الحضاري على سبيل المثال..) وهكذا الأمسيات الشعرية: (فلا يأخذ علينا الناس أننا نشرعن لقصيدة النثر أو نتوقف عند الشعراء التقليدين المحافظين.. إذا ولا بد أردتم أن ندعو أحمد الملا، فلا بد أن ندعو الشيخ عائض القرني أو عبدالرحمن العشماوي!

السلامة يا مجلس الإدارة الثقافية الموقرة.. خلونا نسير بجانب الحائط، فالمهم أن نكون قادة مؤسسة ثقافية، نكتسب من خلالها وجاهة الحضور، واستحقاقات المادة والإعانة السنوية..)(طيب) ياسادة الثقافة: وما هي الغاية التي تسعون إليها من أجل خدمة ثقافتنا المحلية؟ وما هي المشاريع الممنهجة في (روزنامة) أعمالكم، التي تضيق بها الفجوة بينكم وبين سكان المدينة أولا، ثم تؤسس لفعل ثقافي جمعي ثانيا؟وهل أن الأسماء التي تتكفل بأعباء فعالياتكم يمكن أن تضيف شيئا لمسيرة المؤسسة الثقافية؟ أم أنها تصنع مجتمعة أثرا ثقافيا يرسخ في الذاكرة باتساق ذهني، بدلا من ذلك التشتت والتفرق البعيد بمسافات شاسعة عن مفاهيم

ويتجاوز مفهوم (الحضور الباهت) المؤسسة الثقافية إلى المثقفين أنفسهم، الذين ارتضوا على أنفسهم أن يكونوا جاهزين عند أي نداء، ومستعدين لاجترار ذواتهم في كل لقاء من لقاءات الثقافة.. ليختزل المنتج في نماذج ثقافية جاهزة لأدء أدوار محددة في كل مرة، فهاهم يحدثون أنفسهم: (إذا تبغون شيء عن تاريخ جدة أو المدينة المنورة فعندكم نفسها بذلك المشهد النمطي إلى أسماء منمذجة.. مكشوفة.. (تؤدي الغرض)..كالذين يغنون في الأفراح.. تماما! لاأحد ينتظر منهم لحنا مغايرا.. أو أغنية جديدة.. أو إبهارا فنيا.. فالمهم ملء ذلك الفراغ بأي (طريقة.. والسلام)!

أما الأكثر تكريسا لإثبات (الحضور) بلا هدف وقيمة وأثر، فهم فئة الروائيين من المثقفين لدينا، إذ يصدمك المشهد بوجع-على سبيل المثالوأنت تصادف رواية جديدة (ساذجة)، لمن كان معك قبل شهر من الزمن، يحدثك عن مرارة استسهال الفعل الروائي في مكوننا الأدبي، ويطرح عليك أسماء لأهم الروائيين، الذين يقدمون في كل مرة تجريبا مغايرا لما استخدموه في أعمالهم السابقة، ثم تحدثه أنت عن روائيين آخرين يشتغلون على (أرشيف) هائل من المواد (الخام) لصناعة الرواية، عندما ينظر إليها باحتراف مقنن كمشروع يقرر مصير الذات الكاتبة في الحياة أو العدم!

في اللحظة الثقافية يكون الغياب أكثر نبلا وإبداعا وتألقا، من الحضور (بلا معنى).. و(بلا قيمة حقيقية).

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia