Al-Watan (Saudi)

توحيد الألوهية ومفاتيح النهضة تمحيض العبادة لله تعالى في النفس والمجتمع طريق مضمون لتحصيل منافع الدنيا قبل الآخرة

- محمد السعيدي m.alsaidi@alwatan.com.sa

كانت خاتمة مقالي السابق: ضرب المثل بتركيز المنهج السلفي على توحيد الألوهية لسد حاجات البشر الفطرية والروحية، وقد أثار ذلك تساؤلاً لدى البعض ملخصه: إن الأمة بل العالم بأسره في حاجة إلى الاقتصاد والإدارة والسياسة والتنمية، فأين منهج السلف منها؟

والجواب عن ذلك: نعم إن منهج السلف في فهم الإسلام يسد حاجة العالم في كل تلك الأبواب، لكن فهم ذلك كله محتاج لفهمٍ أعمق لتوحيد الألوهية، فكل مشكلات الدنيا مفتقرة في حلها إلى استعبادهم لله عز وجل اختياراً كما هم عبيد له اضطراراً، ودون ذلك فإن جميع الحلول لمشكلاتهم إنما هي آنية أو متوهمة، ولا بد أن تنفتح مع كل واحدة منها أبواب لمشكلات أخر تكون أكبر وأخطر من المشكلة الأساس، كحل مشكلة الإقطاع بالرأسمالي­ة، وحل مشكلة الاستبداد بالحرية، وحل مشكلة الانحدار الأخلاقي بالإشباع الغريزي، وحل مشكلة الاضطهاد بمزاعم حق المساواة، وحل مشكلة البطالة بالتوظيف القسري، وحل مشكلة الفقر بالاشتراكي­ة التصاعدية، وحل مشكلة التضخم بزيادة الأجور، فلا توجد مشكلة تتم محاولة علاجها خارج نطاق الاستعباد التام لله تعالى إلا وينتح عنها العديد من المشكلات الأعظم، وابتعاد العالم عن هذا المنهج في غالبية أطوار التاريخ هو سر الشرور التي يحفل بها التاريخ الإنساني حتى إننا ونحن نقرأ تاريخ العالم السحيق والقديم والحديث إنما نقرأ تاريخ الإجرام والنكد والضيم الذي ينتقل البشر عبره أو ينتقل مع البشر جيلاً بعد جيل.

ولو أردنا أن نفتش في التاريخ عن فترات السعادة التي مرت بها الأمم فإننا لن نحصل من ذلك إلا على القليل، وحتى هذا القليل ليس عاماً فهو سعادة لطبقة على حساب غالبية ، أو سعادة من النوع الذي يمكن تسميته »تعايشياً« أي: أن الإنسان يتكيف مع وضعه السيئ حتى يصل إلى مرحلة اللامبالاة، كما هو حال مليارات من البشر في هذه الحضارة المعاصرة .

وهذا يفسر العناية القرآنية بتوحيد العبادة في حكايته لدعوة الأنبياء قاطبة وفي بيان محاججاتهم مع أقوامهم وفي جدل القرآن الكريم للكافرين، حتى لتكاد تمتزج كل تعاليم القرآن الكريم بالدعوة إلى إخلاص العبادة لله تعالى، وهذا الأمر أوضح من أن تحتاج البرهنة عليه سرد الآيات التي وردت عن دعوة الرسل من نوح حتى محمد عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فلماذا لم توجد شرائع السياسة والاقتصاد والمعاملات بهذه الكثافة وهذا الوضوح ؟

الجواب: أن هذه الشرائع لن يكون لها قيام حقيقي ما لم يقم توحيد العبادة، لأن عدم قيامه أو ضعف قيامه في النفس وفي المجتمع يعني انعداماً أو ضعفاً في جانب الاتباع، وهذا أمر لازم لا محيد عنه، فلا يمكن أن يضعف جانب توحيد الألوهية في النفس والمجتمع ويبقى مع ذلك جانب الاتباع حاضراً قوياً، وحين يضعف جانب الاتباع تصبح أهواء النفوس ومصالحها شريكة في التشريع، وعند ذلك تبطل دعوى الامتثال ودعوى اكتمال توحيد الألوهية في النفوس، فاتباع الهوى يصل بالعبد إلى تأليهه وإن لم يسمه إلها، وذلك حين يقدم هواه ومصلحته وما يراه خيراً لنفسه على نصوص الشريعة، أي يقدم أمر نفسه على أمر ربه، وقد ذكر الهوى مرات عديدة في القرآن الكريم كلها في سياق الذم، وإن اختلفت مواردها، فمرة كعائق من عوائق تحقيق العدالة ﴿فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)، ومرة كمانع من موانع تطبيق الشريعة (يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديدٌ بما نسوا يوم الحساب)، ومرة كصورة من صور الشرك أو كمبرر يتخذه الإنسان لتبرير الإشراك بالله (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلًا).

والأقوى من ذلك كله: أن اتباع الهوى هو مصدر الفساد الكوني ﴿ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون﴾.

فالانصراف عن الذكر وهو التشريع الإلهي هو أعظم مصادر الفساد في السماوات والأرض ومن فيهن.

فالعبادة في توحيد الألوهية والتي يقصد إلى إخلاصها لله تعالى أوسع من جانب الصلاة والدعاء والنذور، بل تشمل اتباع الشرع في جميع مناحي الحياة، وربما يكون نوح عليه السلام فيما حكاه الله تعالى عنه قد لخص ذلك في آية قصيرة من سورة نوح، قال تعالى ﴿قال يا قوم إني لكم نذيرٌ مبينٌ أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون)، فقد تضمنت الآية توحيد الألوهية وثمرتين جامعتين من ثماره، الأولى: تقوى الله تعالى، والثانية: طاعة رسوله، فالأولى باعثة إلى الثانية، والثانية هي الشريعة، التي يلزم من الآية أن تكون مخالفتها ضعفاً في التقوى، وبالتالي نقصاً في العبادة.

وإقامة الشريعة هي في كل تفاصيلها عبادات متنوعة، منها ما هو فرائض الإسلام وواجباته ومناهيه، ومنها ما فيه قوام حياة الناس في تنظيم أمور حياتهم وأموالهم وسياساتهم.

لكن هذه الشرائع منها ما هو معقول المعنى وتتفق الشريعة مع العقول الراجحة على حسنه أو قبحه، فلا تجد الأهواء غضاضة في استباحته أو تحريمه، وذلك كالبيع والسرقة، فإن أهواء النفوس ومعقول الناس يتفق مع الشرع في استحسان إباحة البيع وحرمة السرقة.

لكن من الشريعة ما ليس معقول المعنى أو لا تدرك كثير من العقول والأهواء حسنه أو قبحه، وهذه كثيرة في الشرع جداً، وهي محل التمييز بين المتبع من غيره، لأن الأول لا يشترط في امتثاله إدراك حسن المأمور به أو قبحه، بل يقدم التسليم لحكمة الشارع والانصياع لحكمه ولو عجز عن إدراك حكمته، وهذا النوع من الناس قليل كما أخبر الله عز وجل (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، ولهذا لا تخرج البشرية من بلاء إلا إلى ما هو أعظم، ولو أن الأمم عملت بتعاليم رسالاتها لاستقامت حياتها كأحسن ما تكون الحياة الدنيا كما أخبر تعالى عن اليهود والنصارى (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمةٌ مقتصدةٌ وكثيرٌ منهم ساء ما يعملون).

وإقامة التوراة والإنجيل ليست مقتصرة على العمل بأركان الإيمان أو فرائض الدين، بل متعدية إلى استحلال ما أحل الله وتحريم ما حرم في جميع شؤون الحياة، وإن قصرت العقول عن إدراك حكمته أو كان وهم المصلحة ودرء المفسدة في غيرها، فإن هذه الأحكام منها ما لا تصح مخالفته ولو اقتضت الضرورة ذلك كإلحاق الضرر بالغير أو انتهاك أصول الدين، ومنها ما يمكن تجاوزه مؤقتاً مع ثبوت الضرورة الداعية إلى تجاوزه والمصلحة المتحققة من ذلك، وهذا لا يمكن ضرب المثال له لتغيره بتغير المحل والحال، ولأن ادعاء الضرورة تنزع إليه الأهواء فتسمي ما ليس بضرورة ضرورة لتطبع أهواءها بطابع الشريعة.

والحاصل: أن تمحيض العبادة لله تعالى في النفس والمجتمع طريق مضمون لتحصيل منافع الدنيا قبل الآخرة، ولو لم يكن من الإخلال بتوحيد الألوهية سوى أن من يشك في ذلك شاك في وعد الله الذي لا يخلف وعده لكفى به بؤساً وبئسا ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون﴾.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia