Al-Watan (Saudi)

معنفة أبها

-

الوعي بعدم كفاية الإجراءات النظامية لمعالجة العنف المُقتَرف في حق المرأة، ينبغي أن يحفز المختصين إلى دراسة الأنظمة وإعادة النظر فيها بما يحقق مزيدا من التجريم والعقوبة

تداولت وسائل الإعلام وتطبيقات التواصل المختلفة، الإشارة إلى مقطع التسجيل المرئي للمرأة الصارخة من ألم العدوان عليها بالضرب، هكذا: »معنّفَة أبها«. تسمية للحادثة بوصف وقوع العنف على المرأة وإضافتها إلى »أبها« المدينة التي كانت مكان تسجيل المقطع ومكان التحقيق -تالياً- في موضوع الجريمة التي يتضمنها والأطراف المتعلقة بها.

وهي تسمية لافتة في صيغتها اللفظية تلك، سواء بما يستفزنا في دلالة »العنف« المجرد من معنى الظلم والعدوان والتوحش، أو بوقوعه على »امرأة« حيث المنطقة الأكثر سخونة في الثقافة الاجتماعية والأدعى إلى التعاطف، أو بإضافة واقعة العنف عليها إلى »أبها« التي تغدو بوصفها -وهي المدينة السعودية- ظرف المكان الذي احتوى الواقعة وعَلِقتْ به جريمتها، وغدا كُلاً لا مسؤولية -عنها- للجزء فيه بالمعنى الثقافي والاجتماعي، من دون تبادل الأثر مع الكل.

لذلك كانت الحادثة في التسمية لها، واقعاً »مبنياً« يصنع الحادثة على نحو لافت إليها ومحرض على الإقبال عليها، لمعرفة تفاصيلها، وللوقوف في الموقف الذي يقتضيه العدوان، تعاطفاً مع الضحية ورغبة في الاقتصاص من الجاني والعقوبة له.

وكان هذا الواقع المبني الذي تدل عليه التسمية، موضع منازعة من وجهات نظر أخرى، تريد بناء واقع مختلف للحادثة، ينفيها أو يكيفها وفق تأويل مختلف، يكون من غايته تطبيع ذلك العنف تجاه المرأة فيسميه تأديباً وقوامة وحقاً شرعياً، ويتهم المعترضين عليه في دينهم.

ولكن التسمية التي شاعت لمقطع التسجيل للحادثة وللأخبار عنها والنقاش حولها، وهي »معنَّفة أبها« كانت سجناً لم يستطع التفلُّت من أسْره حتى أولئك الذين أرادوا بناء رؤية مغايرة أو نفي الحادثة؛ لسبب بسيط يمكن وصفه بـ»الوعي الشقي« الذي تحاصرنا به لحظتنا التاريخية الفارقة، في ما تضطرنا إليه من تقويم لثقافتنا ومجتمعنا خارج مألوفنا التقليدي.

إحدى الأمهات -فيما تخبرني زوجتي- كانت تتحدث بألم عن صدمة أطفالها من سماع الصراخ الفاجع: »ليش تبكي يا ماما؟!« »من ضربها؟!« »ليش يضربها؟!«. قالت: احترتُ بماذا أجيبهم؛ كنت أفكر في إجابة تخفِّف صَدْمتهم، وأخشى ألا أوفَّق إلى إجابة تضمن قناعة غير مؤذية لهم. وعلى غير العادة الغالبة في حوادث من هذا القبيل، لم ينته الأمر سريعا. كان هناك من ينفي تعرض المرأة في المكان الذي يشير إليه التسجيل المرئي للعنف، وهناك من يؤكد وقوع العنف. وكان التسجيل المرئي يزداد انتشارا وتداولا.

أما الوسوم عن الموضوع ومتعلقاته في تويتر فقد تعددت، ووصل بعضها في أيام متوالية، إلى مراتب متقدمة في مؤشر التداول للوسوم.

كانت تلك الوسوم، في أحد وجوهها، موضوع صراع ثنائي بين الوجهة النسوية في دفاعها عن المرأة، وبين موقف مضاد يرى في الدفاع عن العدوان على المرأة وجها من وجوه الليبرالية والعلمانية التي تسعى إلى »إفساد المجتمع« و»العدوان على تديُّنه«.

وكانت، في وجه آخر، اتهاما للمجتمع في ثقافته وعاداته، بالتآمر على المرأة، وقبول إذلالها والعدوان عليها: »لقد فرض عليها الذكور -بحسب بعض المغردين- الضرب كما فرضوا عليها الصمت«.

ولم يمض صراع الآراء حول الحادثة، دون أن يحضر صوت بعض الفقهاء والوعاظ، في تسجيلات مرئية، يدعون إلى تأديب المرأة بالضرب، من زاوية تعمَّدت انتقاء التسجيلات -تخصيصاً- من بعض تأويلات غريبة للسنة النبوية، رأت -مثلا- في ضرب المرأة »إعجازاً علمياً« أو تحدثت عن »تكريمها بالضرب« وما إلى ذلك.

أصبح موضوع وقوع الحادثة من عدم وقوعها، ثانوياً، أمام موضوع »الاستنكار« للعنف تجاه المرأة. وكان وقوع هذا العنف -تحقيقاً أو تقديراً- على المرأة، هو وقوع على منطقة أكثر حساسية في ضوء اللحظة التاريخية الأكثر تثمينا لحضور المرأة واتجاهاً إلى تمكينها الاجتماعي.

وهي لحظة وجدت التيارات الفكرية المختلفة في المرأة على وجه الخصوص موضوعا ملحا في محاولتها الإقناع بخطابها، ومجادلة غيرها والصراع معه على قناعات الرأي العام. لذلك لم يعد أحد مؤثِّرا في هذه التيارات، لا يتجمَّل بالوقوف مع حقوق المرأة، أو يتهرب من جريرة الاتهام بقمعها.

والأكثر أهمية على هذا الصعيد، يتمثل في المرأة نفسها، التي أدركت حاجتها إلى الدفاع عن نفسها بنفسها ضد الانتهاك لها والعدوان عليها. ولا أحد -فيما أظن- يجهل لغة الأنثى الواضحة والنابضة بالوعي -حول الحادثة- في الأسماء الصريحة للمحاميات والمثقفات والناشطات الكُثْر المعروفات، وفي المعرِّفات الصريحة والرمزية في تطبيقات التواصل المختلفة.

لماذا اقترف جُملة من المغردين التشهير بالزوج الذي نسبوا حادثة تعنيف المرأة إليه، ووصفوها بأنها زوجته؟! ولماذا اضطروه بتشهيرهم باسمه وصورته، إلى الظهور في مقابلة حية في قناة الإخبارية، وفي حوار مع بعض الصحف، وهو ينفي التهمة، ويستدل بالتقارير الطبية وبيانات الجهات الرسمية التي تبرِّئه، ويتوعد المسيئين إليه وإلى أهله؟!!

كان على أولئك الذين سارعوا إلى التشهير به، وباسم زوجته، أن يقدموا دلائل يقينهم إن كانوا متيقنين من اتهامهم إياه إلى الجهات النظامية المختصة.

واقعة التشهير هنا، تتضافر مع التعاطف الواسع في الإعلام وفي تطبيقات التواصل مع المعنّفة المحتملة، من حيث التشكيك في أداء الجهات الرسمية، وفي كفاية إجراءاتها، والرغبة في الدلالة على كتم صوت المرأة المعنَّفة ونفي امتلاكها الفرصة للبوح والتعبير والشكوى، بسبب التهديد لها والخوف مما ينتظرها من الإجراءات الرسمية التي قد تكون بإيداعها في وحدة الحماية الاجتماعية، وقبولها -مضطرةً من جديد- التسليم إلى من يُخشى عليها منه.

لم تكن هذه الحادثة هي الأولى في تعنيف امرأة، وكانت الجهات المسؤولة عن الحماية الاجتماعية تتعامل بشكل يبدو مُرضياً بانتهاء النقاش عن عديد من حالات العنف بعد تسلمها. لكن هذه الحادثة تُدلل على أن ما تبذله الجهات المختصة بالحماية من العنف، ليس كافيا بسبب التكتُّم على العنف، ومعاناة المعنَّفة بعد انتهاء الإجراءات النظامية بشأنه، وحاجة المرأة إجمالاً إلى مزيد مما يؤهلها لحماية نفسها.

هذا الوعي بعدم كفاية الإجراءات النظامية لمعالجة العنف المُقتَرف في حق المرأة، ينبغي أن يحفز المختصين إلى دراسة الأنظمة وإعادة النظر فيها بما يحقق مزيدا من التجريم والعقوبة. ولكنها جوهريا لن تبلغ الكفاية إلا بمزيد من تمكين المرأة وإثباتها لذاتها، وهذا موضوع ثقافي اجتماعي بقدر ما هو موضوع إدارة وأنظمة؛ موضوع لا ينفصل أبدا عن معركة الحداثة والتقليد، ولا تنفصل فيه مشكلة الوعي بالذات لدى الأنثى عنها لدى الذكر، ولا وعي الفرد عن وعي المجتمع.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia