السياسة بين الواقع والخيال

عادة ما تزخر السياسة بالتصاريح الرنانة والتشبيهات البديعة. ويقالُ -على سبيل المجاز لا الحقيقة- مثلاً: حدثٌ سيُغير خارطة المنطقة، إما أن يُنقل هذا التعبير من الوصف المجازي إلى الواقع الجيولوجي فهذه سابقة، وهي القوة الحقيقية والإرادة السياسية. في عصر قديم قامت الإمبراطورية الصينية ببناء سور الصين العظيم حماية من الهجمات المتكررة. ويُعد هذا السور اليوم من المعجزات السبع، لأسباب تاريخية لا لمكاسب سياسية تم تحقيقها، لم يجدِ السور نفعاً بعد أن تم دخول الأعداء من البوابات برشوة الحراس خلال السنوات التالية للبناء. من جهة أخرى فجدار برلين الذي عزل ألمانيا الشرقية عن الغربية ليس بذلك الجدار القادر على عزلهما فيزيائياً، ثم انهار وكأنه جدار يريد أن ينقضّ.

إذن فتغيير الخريطة مصطلح مجازي يشير للتحالفات السياسية أو غيرها. أمّا ما نحن بصدده اليوم فهو نوع مختلف من القرارات السياسية، مثال مذهل لإرادة الملوك، توجهٌ لم يخطر على بال من أطلق لخياله العنان، لطالما كان تخيلك لشيء أسهل من أن تنفذه، هذا بالأمس فقط! أما اليوم.. فالخيال عاجز عن مواكبة ما يحدث فعلاً على أرض الواقع. تذكُر كُتب الجغرافيا أن المياه تحيط بها من ثلاث جهات، وهذا خطأ، بل من أربع جهات، ولربما غاصت وأصبحت تحيط بها من الأعلى أيضاً بسبب تخبطاتها. البون شاسع بين سياسة دولتنا التي تنبع من منطلق داخلي، ووفق رؤى واضحة وخطى ثابتة ومعلنة، وبين تقلبات وتخبطات لا ترتقي لتصنف سياسة، فللسياسة قواعد وأعراف. لفصول السنة توقيت منطقي، وللظلام والنور تفسير وتوقع، ولعمليتَي المد والجزر مسببات وآثار منطقية، حتى إن لسلوك الحرباء المشهور أحد سببين رغم تنافرهما، لتفتك بفريسة أو لتلافي أن تكون هي الفريسة. أمّا ما هي فيه حرباء الخليج من حالة فليست سوى تخبطات.

يقول المثل العربي القديم »في الصيف ضيعتِ اللبن« قصته أن سيدة طلبت الانفصال عن زوجها الغني الذي كان يكرمها، لتتزوج بآخَر، حال الحول، وبلغت بها الفاقة أن طرقت بابه تسأله اللبن فقال »في الصيف ضيعتي اللبن«. كان اللبن يصل المتصلة بَراً ووصلها بِراً وهي تحاول الفصال، فها هي قد فُطمت.

أتساءل إلى متى سيتحمل الاقتصاد المنهك عبء التضخم الذي أوشك أن ينفجر، ألّم ينفجر قبله صبر المواطن المغلوب على أمره! وهل سيتكفل الغير بتكاليف اللبن جواً صدقة أم زكاة؟ مهلاً.... بسياستكِ لستِ مريم العذراء -عليها السلام- لتنزل عليك الفاكهة في غير موسمها، فلستِ بعذريتها ولا في عفتها، ولستِ نَذر خلوص عبادة، بل نذير شر وبلية جار. من رمى لكِ اليوم الأقلام ليكفلك سيستعير غدا قول إبليس »وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي« سورة إبراهيم 22. سيلعن التاريخ من أراق اللبن، ومن ودفع الثمن لإهراق الدماء في المشرق والمغرب، ومن لا يزال جهاراً ينفخ في بوق الشر، وليلاً ينفث في العُقد.

لكل كيان سياسي وزن، بغض النظر عن مقداره، ولكل قرار سياسي تبعات بغض النظر عن مداها. ومن الحكمة أن تقاس أوزان الكيانات السياسية بما لها من ثقل ديني وسياسي واقتصادي وتاريخي وجغرافي، ومن الحنكة أن تقاس أهمية التصاريح والقرارات السياسية بما لها من تبعات واقعة لا محالة أو محتملة غير مستبعدة. والتخبط السياسي هو عدم الإلمام بذلك.

لمن أراد دروساً في علم فنون السياسة واستخدام أدواتها فليراقب. ولمن شاء فهم معنى الحِلم فيتبصر فيمن يَصبر مع المقدرة على إمضاء ما أراد، ولمن أراد أن يعرف الحزم فلينظر لملوكنا، ولمن أراد فهم العزم فليرُقب.