Al-Watan (Saudi)

الصين ومجتمع ما بعد الصناعة

- محمد السعد

اليوم نعيش تجاوزا جديدا مصدره الصين، قد يكون على حسابنا وقد يصب في مصلحتنا، ولكن الأكيد أن الصين اليوم شريك لا غنى عنه في عقد الصفقات الاقتصادية

مهما قيل عن الصين ومنظومتها السياسية، هذا البلد المترامي الأطراف الذي عاش سباتا طويلا وظل متنحيا على هامش المجتمع الدولي، فلا أحد يستطيع استيعاب الطريقة التي نقلت الصين من الفقر والعزلة إلى بلد يسعى عمليا للهيمنة على اقتصاد العالم.

كان نابليون بونابرت ثاقب النظر حين تنبأ في منفاه في جزيرة سانت هيلانه قائلا: »عندما تستيقظ الصين فإن العالم سيرتعد« ولا شك بأن نبوءة نابليون كانت صادقة، فبعد أن قررت الصين أن تستيقظ من سباتها وتتحرر من عزلتها في اتجاه الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم، وكان باعثها على الانفتاح على اقتصاد السوق اللحاق بالاقتصادي­ات المتقدمة والدخول في حلبة التسابق الاقتصادي.

أخرجت الصين ما يفوق على مليار نسمة من سكانها من براثن الفقر وأصبحت القوة الثانية اقتصاديا بعد الولايات المتحدة الأميركية، متجاوزة بذلك جارتها اليابان وألمانيا وقبلهما بريطانيا وفرنسا، وبعد النكسة الاقتصادية العالمية عام 2008 يبدو بأن ارتقاء عتبة الصدارة صارت مجرد مسألة وقت بالنسبة للصين.

فمن خلال شعارها الشهير (صنع في الصين) وضعت الصين خطتها الإستراتيج­ية طويلة الأمد، بالتدرج من الصناعات البلاستيكي­ة الرخيصة حتى وصلت إلى عالم التقنية المتقدمة والصناعات الثقيلة، فالصين الآن تمتلك رؤية مستقبلية في التحول من بلد ينتج البضاعة الرخيصة إلى بلد رائد في الصناعات المتقدمة.

تحولت الصين إلى بلد يستحوذ على جل الصناعة العالمية، فهي الآن مصنع العالم، ومن خلال هذه الإستراتيج­ية الاقتصادية تسعى الصين إلى زعزعة اقتصاديات البلدان المتقدمة، وهذا الهجوم الاقتصادي تسبب في نزيف صناعي في أوروبا وأميركا، قد بدأ بالفعل حتى بلغ اليوم مرحلة متقدمة تشهد هجرة العديد من الصناعات إلى خارج أوروبا.

والنزيف الصناعي سببه هجرة الصناعات إلى الصين بعد أن قدمت الشركات الأوروبية والأميركية مصلحتها الخاصة على المصلحة العامة، حتى صار للصين لوبيات ضغط داخل أروقة صنع القرار الأميركي وأصوات تدافع عن إبرام العقود التجارية مع الصين.

ولا شك أن هجرة الصناعة خارج أوروبا قد نتج عنها بطالة وتسريح لآلاف الموظفين، ولن تحل الصناعات عالية التقنية محل تلك الصناعات المهاجرة، وكل ما يسمى اليوم »مجتمع ما بعد الصناعة« الذي يتحدث عنه الكثيرون ما هو في الواقع سوى خدعة أيديولوجية.

فهذه البدعة السياسية المسماة »مجتمع ما بعد الصناعة« في حقيقتها ليست إلا هروبا من الواقع، فمجتمع ما بعد الصناعة أو المجتمع الذي تجاوز مرحلة الصناعة إلى مرحلة تقديم الخدمات مثل التعليم والعلاج والبحث وغيرها، هو مجتمع ناقص فلا أحد يستطيع أن يفصل الصناعة عن تقديم الخدمات، فكلاهما مكمل للآخر.

وفي خضم هذه المنافسة الاقتصادية المحمومة وتبادل الأدوار السريع، أين تجد المجتمعات العربية نفسها؟ فتجربة الصين البعيدة جغرافيا والمختلفة ثقافيا تعد مادة ثرية لاستخلاص الدروس، فمع بعدها الجغرافي وكونها بلدا لم يسبق له استعمار أي بلد عربي، ولكنه حاضر بقوة بيننا في حياتنا اليومية بشعاره الشهير (صنع في الصين).

فاليوم نعيش تجاوزا جديدا مصدره الصين، قد يكون على حسابنا وقد يصب في مصلحتنا، ولكن الأكيد أن الصين اليوم شريك لا غنى عنه في عقد الصفقات الاقتصادية المربحة بعدما انتقل مركز الريادة الاقتصادية من الأطلسي إلى الفضاء الهادئ الآسيوي.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia