Al-Watan (Saudi)

العلم يؤيد التفاضل بين اللغات

- محمد السعد

لو تأملنا كل ما يحيط بنا في هذا الكون الفسيح، بداية من حركة الكواكب والمجرات الهائلة، حتى آلية نمو الكائنات المتناهية في الصغر التي لا ترى إلا بالمجهر، لوجدناها تسير وفق نظام دقيق، محكوم بقوانين طبيعية غاية في الدقة والاطراد.

ساعدت معرفة هذه القوانين الإنسان على التنبؤ بالظواهر والتحكم بها لتحقيق نزواته نحو السيطرة والتحكم بالطبيعة. والظاهرة اللغوية كانت »مع تعقدها الشديد« أحد المجالات التي رضخت للمنهج العلمي الصارم، وكان الهدف من وراء ذلك الكشف عن النظام الذي يحكم الظواهر اللغوية.

وبشأن النظام الكامن وراء الظواهر الطبيعية، يقول صلاح قنصوة في كتابه فلسفة العلم: »وقد قرن بوانكاريه بين مسلمة النظام وبين الجمال، فنظام الطبيعة ضرب من الجمال. ورجل العلم في نظره لا يقبل على دراسة الطبيعة إلا لما يستشعره من متعة دراستها، وهو يجد تلك المتعة لأنه يرى الطبيعة جميلة، وجمالها هو ذلك الذي يترتب على النظام المتوافق والمنسجم لأجزائها .«

وبما أن اللسانيات وضعت على كاهلها دراسة اللغة علميا، فهي ملزمة بالكشف عن النواحي الجمالية والجمال التنظيمي في اللغة، وكل لغة لها نظامها الخاص بها، فاللغة العربية لها نظام اشتقاقي يختلف عن النظام الإلصاقي للغة الإنجليزية، وكل نظام يسبغ على لغته الجمال الخاص بها، والباحث اللساني بما يملكه من نظريات لسانية قادر على إظهار الجمال التنظيمي في اللغة.

اللغة لها جانب نفعي سهل على الإنسان عملية التواصل اليومي، والحاجة النفعية للغة اقترنت دائما بحاجة إستطيقية (جمالية) تطورت مع تطور الإنسان، مضيفة وظيفة جديدة للغة، وهي وظيفة الاستمتاع باللغة لإشباع حاجاته الجمالية. فاكتسب وعي الإنسان تدريجيا ميلا نحو التعامل مع الأشكال والأنماط والتركيبات التي يجدها قائمة في نظام اللغة، فأخذ يستحدث ويبتكر ليضفي على لغته الاتساق والإيقاع، بحيث يتمكن المشاهد من أن يجد في التكوين ككل نمطا واضحا يريح مخيلته، وقد ذكر الفيلسوف هيوم في النسق: »ينبني الجمال على نظام الأجزاء. وبسببه ينبني تكوين أشكال أشياء الطبيعة أساسا على النسق، فيهيئ لنفسيتنا الاقتران معها بالعادة الإرضاء والمتعة«، والنسق هنا يضفي صفة الجمال على الشيء باستقلاله عن الوظيفة النفعية.

فهل للعلم علاقة بعلم الجمال؟ يقول هنري بوانكاريه: »والجمال هنا ليس المقصود به الجمال الذي يؤثر في الحواس أو جمال الصفات أو المظاهر. فهذا جمال لا نقلل من قدره، ولكن هذا الجمال لا يمت بصلة إلى العلم. فالجمال الذي يجيء من النظام المتوافق للأدوار يكون أعمق، وهذا هو الجمال الذي يعطي هيكلا إلى المظاهر المتلألئة التي تصل إلى حواسنا، وبدون هذا الدعم فإن هذا الجمال سيكون جمالا ناقصا، لأنه سيكون جمالا غامضا.«

ويؤكد الفيلسوف وعالم الرياضيات الشهير برتراند راسل: أن الرياضيات لا تمتلك الحقيقة فحسب، وإنما الجمال الأسمى، فهو هنا يربط الرياضيات بعلم الجمال، والرياضيات كما نعلم هي لغة العلم المجردة، وأغلب علماء الرياضيات يجدون قيمة جمالية للأرقام والحروف والأشكال الهندسية المجردة، ويقول الباحث سمير زكي، وهو عالم أعصاب في كلية لندن الجامعية: »عدد كبير من المناطق بالمخ يشترك في رؤية المعادلات الرياضية، ولكن عندما ينظر شخص إلى صيغة رياضية يقدرها على أنها جميلة، فإن هذا ينشط مراكز الإحساس العاطفي في المخ تماما، مثل النظر إلى لوحة فنية رائعة أو قطعة موسيقى .«

وكثيرا ما نسمع أو نقرأ عن اللغويين العرب القدماء قولهم: إن اللغة العربية لغة جميلة، واقتصر مفهومنا للجمال على المستوى البلاغي أو الفني، ولكننا لم نهتم بعلاقة النظام النحوي والصرفي بعلم الجمال، فكثير من متحدثي اللغة لا يعون هذا الجمال التنظيمي الكامن في اللغة، الذي قد يميز لغة عن أخرى.

للغة حاجة مركبة لا تقتصر على تسهيل التواصل في المعيش اليومي، فكل اللغات تؤدي غرضها النفعي البسيط، ولكن هناك حاجة تضاف للحاجة النفعية للغة، وهي الحاجة الإستطيقية (الجمالية)، ووظيفتها إرضاء متطلبات الفرد بالاستمتاع بالوجود، ولذلك أقدمت مخيلة الإنسان بدوافع سيكولوجية وسخرت قدراتها على التصور، فاستحدثت منحى جديدا للاستعمال اللغوي يهدف إلى الاستمتاع باللغة، وهذا المنحنى يتعالى على حاجات الإنسان النفعية لاستعمال اللغة، فأخذ مخيلة الإنسان تبدع أشكالا جديدة منها مثل الطباق والجناس، وابتكر القوافي وبحور الشعر ليضفي على لغته الإيقاع والجرس الموسيقي، وهذا الاستعمال الجمالي للغة أصبح حاجة متأصلة في وعي الإنسان، وحاجة تضاف للحاجة النفعية لاستعمال اللغة.

تعامل علم اللغة البراغماتي (الذرائعي) مع اللغة وكأنها مجرد نظام بسيط من العلامات يستعمل لتمثيل الأفكار، واقتصر دوره على دراسة الجانب النفعي من اللغة، متجاهلا جانبا مهما جدا من الاستعمال اللغوي، وهو الجانب الجمالي، مع أن علم الجمال أكد ارتباطه الوثيق بالعلم، فهل اللسانيات بجميع حقولها واهتماماته­ا قادرة على الكشف عن النواحي الجمالية في أنظمة اللغات المختلفة؟

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia