Al-Watan (Saudi)

النظر في لب المعاني خير من الجمود على الألفاظ

- أحمد الرضيمان

فهم دقائق المعاني يحل به العلماء كثيرا من الإشكالات، وأما من جمد على الألفاظ فإنه لا حل لديه، وربما يُضيِّق على عباد الله بجموده وضيق أفقه

ذكر أهل العلم ومنهم ابن القيم -رحمه الله- أن من له غرض في دقائق المعاني، فإن نظره يتجاوز قالب اللفظ إلى لب المعنى، وأما الواقف مع الألفاظ فإنه موقوف على الزينة اللفظية، فمثلا في قوله تعالى: (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)، تجد أنه قابل الجوع بالعُري، والظمأ بالضحى.

فالواقف على الألفاظ ربما يخيل إليه أن الجوع يقابل بالظمأ، والعُري بالضحى، بينما الداخل إلى بلد المعنى يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة، لأنّ الجوع ألم الباطن، والعري ألم الظاهر، فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع الضحى، لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن، والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهرا وباطنا، وفي هذا الباب حكاية مشهورة وهي أن أحدهم قال يوما للمتنبي قد انتُقد عليك قولك: وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلْمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم قالوا: ركبت صدر كل بيت على عجز الآخر، وكان الأولى أن تقول: وقفت وما في الموت شك لواقف ووجهك وضاح وثغرك باسم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة كأنك في جفن الردى وهو نائم ليتم المعنى حينئذ، لأن انبساط الوجه ووضوحه مع الوقوف في موقف الموت، أشبه بأوصاف الكماة والسلامة من الردى، مع مرور الأبطال كلمى هزيمة أعجب في حصول النجاة، فقال المتنبي: اعلم أن القزاز أعلم بالثوب من البزاز، لأن القزاز يعلم أوله وآخره، والبزاز لا يرى منه إلا ظاهره، وهذا الانتقاد غير صحيح فإني قلت:

وقفت وما في الموت شك لواقف، فذكرت الموت وتحقق وقوعه في صدر البيت ثم تممت المعنى بقولي: كأنك في جفن الردى وهو نائم، والردى: الموت بعينه فكأني قلت: وقفت في مواضع الموت ولم تمت، كأن الموت نائم عنك، فحصل المعنى مناسبا للقصد ثم قلت:

تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمة، ومن شأن المكلوم والمنهزم أن يكونا كاشحي الوجوه عابسيها خائبي الأمل فقلت: ووجهك وضاح وثغرك باسم، لتحصل المطابقة بين عبوس الوجه وقطوبه ونضارته وشحوبه وإن لم تكن ظاهره في اللفظ، فهي في المعنى يفهمها من له في إدراك دقائق المعاني قدم راسخ.

ولهذا فإني أقول: إن فهم دقائق المعاني، يحل به أهل العلم كثيرا من الإشكالات، وأما من جمد على الألفاظ، فإنه لا حل لديه، وربما يُضيِّق على عباد الله بجموده، وضيق أفقه، وقد ورد في بدائع الفوائد: أن حادثة وقعت في أيام ابن جرير، وهي أن رجلا تزوج امرأة فأحبها حبا شديدا، وأبغضته بغضا شديدا، فكانت تواجهه بالشتم والدعاء عليه، فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا لا تخاطبيني بشيء إلا خاطبتك بمثله، فقالت له في الحال: أنت طالق ثلاث، فأبلس الرجل ولم يدر ما يصنع، فاستفتى جماعة من الفقهاء، فكلهم قال لا بد أن تطلق، فإنه إن أجابها بمثل كلامها طلقت، وإن لم يجبها حنث وطلقت، فإن بر طلقت، وإن حنث طلقت.

فأرُشِد به إلى ابن جرير، فقال له: امض ولا تعاود الأيمان، وأقم على زوجتك بعد أن تقول لها: أنت طالق ثلاثا إن أنا طلقتك، فتكون قد خاطبتها بمثل خطابها لك، فوفيت بيمينك، ولم تطلق منك لما وصلت به الطلاق من الشرط.

فذكر ذلك لابن عقيل فاستحسنه، وقال وفيه وجه آخر لم يذكره ابن جرير، وهو أنها قالت له: أنتَ طالق ثلاثا بفتح التاء وهو خطاب تذكير، فإذا قال لها: أنتَ بفتح التاء لم يقع به طلاق.

قال ابن القيم: وفيه وجه آخر أحسن من الوجهين، وهو تخصيص اللفظ العام بالنية، كما إذا حلف لا يتغدى، ونيته غداء يومه قصُر عليه، وإذا حلف لا يكلمه، ونيته تخصيص الكلام بما يكرهه، لم يحنث إذا كلمه بما يحبه، ونظائره كثيرة، وعلى هذا فنياط الكلام صريح أو كالصريح في أنه إنما أراد لا تُكلِّم بشتم أو سب أو دعاء أو ما كان من هذا الباب إلا كلمها بمثله، ولم يرد أنها إذا قالت له: اشتر لي مقنعة أو ثوبا، أن يقول لها اشتر لي ثوبا أو مقنعة، وإذا قالت له: لا تشتر لي كذا فإني لا أحبه، أن يقول لها مثله، هذا مما يقطع أن الحالف لم يرده، فإذا لم يخاطبها بمثله لم يحنث، وهكذا يقطع بأن هذه الصورة المسؤول عنها لم يردها، ولا كان بساط الكلام يقتضيها، ولا خطرت بباله، وإنما أراد ما كان من الكلام الذي هيج يمينه وبعثه على الحلف، ومثل هذا يعتبر في الأيمان، وهكذا العقود فإن العبرة بها بالمقاصد والمعاني، لا الألفاظ والمباني.

والمقصود: أنه ينبغي النظر في المعاني، وعدم الجمود على الألفاظ، أو الانبهار بها، وقد ذكر الله في كتابه أن بعض الناس يأتي بالكلام المزخرف من الباطل، فتصغى إليه أفئدة من تبهرهم العبارات المزخرفة من أهل العقول الضالة، فإذا أصغوا إليه (رضوه) كما قال تعالى: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون)، وأما أهل الإيمان بالآخرة، وأولو العقول الوافية والألباب الرزينة، فإنهم -كما ذكر ابن سعدي رحمه الله- لا يغترون بتلك العبارات، ولا تخلبهم تلك التمويهات، بل همتهم مصروفة إلى معرفة الحقائق، فينظرون إلى المعاني التي يدعو إليها الدعاة، فإن كانت حقا قبلوها، وانقادوا لها، ولو كسيت عبارات رديئة، وألفاظا غير وافية، وإن كانت باطلا ردوها على من قالها، كائنا من كان، ولو ألبست من العبارات المستحسنة، ما هو أرق من الحرير.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia