Al-Watan (Saudi)

ما وراء نقد الدولة

- خالد العضاض

في عام 1789 عقد ملك فرنسا لويس التاسع عشر اجتماعا هو الأول من نوعه لممثلي الطبقات الثلاث للمجتمع الفرنسي: طبقة الملك ورجال الدين، وطبقة النبلاء، وطبقة العامة، جلس النواب الممثلون لطبقة العامة أو الشعب على يسار الملك، وجلس النواب الممثلون لطبقة النبلاء ورجال الدين على يمين الملك، أدى هذه الاجتماع المهم -الذي حول مجرى التاريخ- إلى نشوب مجموعة من الإضرابات والمطالبات من قبل العامة أو الشعب وممثليهم انتهى بها الأمر إلى قيام الثورة الفرنسية في ذات العام، وظل اليسار بعدها أيقونة على التغيير والوقوف في وجه الحاكم على عكس اليمين، وبعيدا عن تعقيدات المصطلح واضطراب تعريفه وتذبذبه بين عدة نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية، وبعيدا عن اختلاف المنظرين في ضبطه حتى بين اليساريين أنفسهم، يلفت النظر أن مفهوم النقد اليساري قائم على النقد السلبي المؤدي إلى إسقاط الحكومة، أو الثورة على الحكومة من بداياته البسيطة، وحتى التحولات والتحورات المعقدة لفكرة اليسار، والتي راوحت بين الليبرالية والاشتراكي­ة، وانتقلت إلى الشيوعية مرورا بالديمقراط­ية الاجتماعية والليبرالي­ة الاشتراكية، حيث إنه وبمرور الوقت تغير مفهوم اليسار إلى درجة أنه أصبح من الصعوبة بمكان إيجاد مفهوم موحد لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلته، غير أنه يمكن تلخيص أهم أسس النقد اليساري، في أمرين هما: أولا السعي نحو التغيير السريع إلى أقصى حدٍّ ممكن، وثانيا انتهاج العنف أداة للتغيير.

الغريب في الأمر أنك حينما تبحث في أدبيات اليسار وتحولاته وفلسفته، تواجه في كل زاوية من البحث ما يذكرك بالإسلام السياسي، والذي يسعى إلى بيان مثالب الحكم والحاكم والدولة في أدائها، وكشف أخطائها ومناطق الضعف، ومواضع الكسر في العمل التنفيذي للأجهزة الحكومية بطريقة متشفية وعلى رؤوس الأشهاد، لا من باب النقد الإيجابي الذي يعزز الصواب، ويعالج الخطأ عبر سلوك الطرق الصحيحة، وترك الأمر لأهل التجربة وأرباب الخبرة في تحديد ما يؤخذ وما يترك.

هؤلاء الناقمون الناقدون الكارهون، استلهموا النظرية اليسارية، أو أخذوا عمن استلهم النظرية اليسارية في أوضع وأحط أوصافها وخصائصها، وهو التغيير على أي شكل كان، لا حبٍّا في التغيير والتقدم بل كرهاً في الحاكم لا غير، بمعنى أني أنتقد الدولة للنقد فقط، وأنتقد الدولة لإحراجها، وأنتقد الدولة لإسقاطها وليس لتعديل ما أراه -حسب المتوفر لدي من معلومات وخبرات قاصرة - انحرافا في المسار، وزيغا عن العدل والحق، وأبرز دلالة على كلامي هذا أنك لا تجدهم يثنون على دولتهم أي ثناء كان إلا إن كان مدخلا لسباب أو ثلم، والنقد كما يعرفه أهل الأفهام السليمة يحمل الوجهين معا، الثناء من باب تعزيز وتمتين نقاط القوة، وبيان الخطأ ودعم البيان بحزمة مقترحات ومبادرات تعالج الخطأ.

يتناسى عمدًا هؤلاء الكارهون أو اليساريون الخدج حال نقدهم ومعارضتهم، مبدأ مهمٍّا قامت عليه الدولة والمجتمع في المملكة العربية السعودية، وهو مبدأ البيعة الشرعي الذي يلتزم من خلاله المواطن لولي أمره بواجبات معروفة ومقدرة في الشرع والعرف، وله على الحاكم حقوق مقدرة ومعروفة شرعًا وعرفًا، مع هذا التناسي ينتقلون إلى النظرية اليسارية في جانب مشوه منها، وهو تبني التغيير العنيف السريع بأي حال كان، دون مراعاة لتطبيق شرع الله -عز وجل- في هذا الأمر المهم، وهم بهذا يعاملون الدولة والمجتمع كما لوكنا في دولة أوروبية تطبق نظاما علمانيا، يمكن من خلاله نقد الحكومة وإسقاطها والمجيء بحكومة أخرى، غير مستحضرين أن ما يقومون به ما هو إلا ثورة وانقلاب على حاكم وعلى بيعة شرعية.

وحينما يستحضر هؤلاء القوم مثل هذه الفكرة -فكرة اليسارية المشوهة- في نقدهم، هم في الوقت ذاته يقمعون ويكفِّرون كل من ينادي بالعلمانية المعدلة أو المخففة، والتي تناسب أكثر المجتمعات العربية التي أنهكها الاقتتال والاحتراب الطائفي، وكما هو معلوم أن الحكم من وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحتى نهاية الدولة العباسية مر بعدة أشكال لا تشبه بعضها، فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لم يستخلف، وبعده في السقيفة كان الأمر شبه إجماع على سعد بن عبادة -رضي الله عنه- من قبل قومه أهل المدينة، ثم انتقل الأمر وفقا لحوار عام تم بين فئات المجتمع -أشبه ما يكون بالحوار الشعبي- إلى أمير المؤمنين أبي بكر، رضي الله عنه، والذي قام هو باستخلاف عمر، رضي الله عنه، وعمر -رضي الله عنه- خلق شكلا جديدا في تداولية الحكم غير ما سبق، وهكذا مرت تجارب المسلمين في الحكم وتداوله على مدى سبعة قرون، لتثبت وتعزز مقولة الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وسياسة الحكم اليوم لا يطرد فيها الحكم بما أنزل الله إلا في شقها القضائي، أما شقّاها التشريعي والتنفيذي فهما من أمور الدنيا، فلما إذا يجيز أهل الحاكمية لأنفسهم ما لا يجيزون لغيرهم حينما يتعلق الأمر بالحاكم، إذ إنهم يسعون عبر التآمر في أقبيتهم ودهاليزهم السرية بالوصول إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع أو الثورة أو الانقلاب أو أي طريقة كانت، لكن شريطة ألا تمس الحاكمية التي ستحمي كرسيهم لاحقا.

ما يقوم به هؤلاء القوم، هو أمر مجتزئ يؤدونه بطريقة مريبة غريبة، فهم ينتقدون كما لو كانوا يريدون إسقاط رئيس حكومة في انتخاب أو تصويت، متجاهلين أن الأمر ليس ذهاب حاكم ومجيء آخر بسلاسة، بل هو تمهيد لانقلاب على بيعة شرعية مستقرة في العقول والنفوس، متوافقة مع النظرية الشرعية التي يطالب بتطبيقها الحاكميون عبر حاكميتهم المتوهمة، وفي الوقت ذاته يستخدمون الأدوات اليسارية لتقويض هذه البيعة.

أخيرا، ابحثوا في رأي الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- حينما قال: الحكم بغير ما أنزل الله كفر دون كفر.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia