Al-Watan (Saudi)

الشيخ سليمان الوطبان ذاكرة وطن

- خالد العضاض

الشيخ سليمان يتمتع بمهابة وهيبة، وذكاء خارق، ينتبه إلى دقائق الأمور قبل جليلها، على الرغم من تقدمه في السن، وذاكرته ما زالت حيّة غضة طرية

في هذا العام، أتم الشيخ سليمان بن محمد بن رشيد الوطبان -حفظه الله- عامه الـ100، أمدّ الله في عمره ومتّعه بصحته. والشيخ سليمان روح مترعة بالحياة، ويد ندية بالبذل والعطاء، يقضي ساعات يومه بين ذكر وعبادة، أو إكرام ضيوفه من طلاب العلم والمعرفة والتاريخ، حباه الله بموهبة فريدة في معرفة الأنساب والأصول والأسر والعوائل، فيقصده الناس للسؤال أو التأكد من معلومة، أو أحيانا الفصل في مسائل شائكة في الأنساب والتاريخ، بابه لم يغلق يوما من 40 سنة، حينما ألقى عن كاهله عصا الترحال واستقر في حاضرة القصيم بريدة، بعد 50 سنة سابقة من الترحال بين خدمة الوطن وطلب الرزق، وهكذا كانت سيرته في تيماء آخر مستقر له قبل عودته إلى القصيم، يحدثني ابن أخيه الأستاذ رشيد بن عبدالله الوطبان –حفظه الله- عن أنهم خلال زياراتهم عمّهم الشيخ سليمان في تيماء، يستيقظون صباحا ليجدوا حول منزل الشيخ خياما بيضاء متناثرة ذات اليمن وذات الشمال، لرجال البوادي الذين يأتون للنسابة سليمان الوطبان، ليكتب لهم توثيق انتسابهم لهذه القبيلة أو تلك، إذ كُلّف بهذه المهمة من الملك الشهيد فيصل -طيب الله ثراه- لثقته في الشيخ سليمان، وثقته في علمه ومعرفته، وكان يستقبل تلك الوفود بكل الترحاب والود والكرم.

والشيخ سليمان يتمتع بمهابة وهيبة، وذكاء خارق، ينتبه إلى دقائق الأمور قبل جليلها، على الرغم من تقدمه في السن، وذاكرته ما زالت حيّة غضة طرية، يروي لك الحادثة كأنها حدثت له بالأمس، فيتذكر أنه بعد خروج والده النسّابة الشيخ محمد بن رشيد الوطبان -رحمه الله- من أوثال لطلب الرزق، بدأ بالعمل المستقل بالزراعة وهو لم يتجاوز الـ13 من عمره، في حالة يندر تكرارها إذ إن أبناء ذلك الزمان في مثل تلك السن يبدؤون العمل أجُراء لدى أقاربهم أو أبناء بلدانهم، أو يعملون مع أهاليهم، أما سليمان اليافع عزيز النفس أبَِيّ الروح، أبى إلا العمل المستقل المنفرد، ولقلة الخبرة والاستقلال­ية لم تنجح كثيرا زراعته تلك السنة، فأصر على مغادرة مسقط رأسه أوثال، للعمل في الجيش السعودي، وبالفعل لحق بالجيش السعودي في الطائف، وانتظم تحت قيادة الفيصل العظيم في الحملة المظفرة التي قادها الشهيد بأمر المؤسس، لتأديب المتمردين في اليمن، ويحدثني الشيخ سليمان عن تفاصيل التفاصيل في تلك الحملة، وكيف وقف الفيصل -طيب الله ثراه- على تخوم الحديدة وكيف رجع عنها، وما مشاعر أفراد الجيش في تلك الحملة، وما حدث لهم من قصص وأحداث تستحق التسجيل والرصد، وكان الشيخ سليمان من الأفراد المميزين جدا في تلك الحملة، لكونه من رجال المدفعية، وهؤلاء كما هو معروف لهم قيمتهم عند قائدهم وأميرهم.

وبعد عودة الحملة، لم يرض بالقعود واستلام الراتب الذي يصرف له بلا عمل يستحق، حسب عرف وثقافة أبناء ذلك الزمان، فاستقال من الجيش، وبدأ بطلب الرزق والتجارة بين مصر وفلسطين والأردن، وغيرها من محطات رجال العقيلات، والذي يعد واحدا منهم، واستقر فترات متقطعة مع والده قرب معان في الأردن، ويروي كثيرا من المواقف والطرائف والأحداث العصيبة التي مرت به في تلك الفترة، وكيف تعرّف على شخصيات سياسية وعسكرية، وشخصيات من وجوه القبائل وزعمائها، ولعل من أبرزهم الضابط البريطاني الشهير السير جون جلوب المعروف باسم جلوب باشا، والذي يلقبه أهل البادية بـ»أبي حنيك،« والمتوفى عام 1986، ويقول عنه الشيخ سليمان: إنه أشبه ما يكون بالأسطورة من ناحية دهائه وذكائه، ومعرفته بأحوال المنطقة وأهلها، فقد كان يميز النباتات الصحراوية كأنه عالم نباتات، ويميز القبائل وكأنه نسّابة عربي، ويتعامل مع الناس بطريقة ساحرة آسرة تخلب اللب، استضافه الشيخ سليمان في مقر إقامته أكثر من مرة، وكان يقول عنه: إنه يحب القهوة وعادات البدو وطبائعهم.

الشيخ سليمان اهتم بتعليم أبنائه بشكل كبير، ويحدثني ابنه الدكتور علي بن سليمان الوطبان، عن أن والده يمكن أن يتساهل في أي خطأ أو هفوة، إلا الذي يتعلق بالدراسة والتحصيل العلمي، لذا فإن الشيخ سليمان يغلق باب بيته مساء وحوله لفيف من أساتذة الجامعات وحملة الماجستير والبكالوري­وس، فجميع أبنائه وبناته أنهوا التعليم الجامعي بتفوق، ويحمل من أبنائه درجة الدكتوراه، الدكتور علي، والدكتور محمد، والدكتور إبراهيم، والدكتور عبداللطيف، ويحمل الماجستير منهم الأستاذ عبدالعزيز، أما الأستاذان الفاضلان أحمد وفهد، فهما تربويان يعملان في سلك التعليم، وبناته الـ11 من حملة البكالوريو­س، ومن كان هذا نتاجه وتربيته، فهو ولا ريب عقل كبير، ونفس عظيمة أبيةٌ، لا تطمح إلا إلى العلا ومعالي الأمور.

وقد شرفني الشيخ سليمان -حفظه اللهبمجموع­ة من الساعات التسجيلية عن حياته وسيرته، والأحداث التي وقعت له، وآرائه المتفردة في كثير من الأمور، منها رأيٌ مثير له يدل على عقل منفتح يرى الأمور بواقعية، بعيدا عن التشنج غير المبرر، وهو رأيه في الاستعمار الأجنبي للبلاد العربية، فيقول، حفظه الله، لا شك أن الاستعمار انتهاك لكرامة المستعمَر، وفيه من الضيم والقهر الشيء الكثير، لكن أمَا وقد وقع، ثم حرر الله البلاد ورقاب العباد من المستعمِر، فيجب أن ننظر إلى جوانب إيجابية مهمة جاءت مع المستعمِر، من أهمها التعليم والصحة، والارتباط بحضارة العالم المتقدم.

حفظ الله الشيخ سليمان، وبارك الله له في ولده وماله، وأمد الله عمره بصحة وعافية، على مزيد من الطاعة لربه، وخدمة لوطنه بخدمة طلاب العلم والمعرفة، الذين يرتادون بيته كل يوم.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia