Al-Watan (Saudi)

كم مرة غادرنا الأرض

- فاطمة السهيمي

تمتم الشيخ الضرير..سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهو ينهض من مجلسه بصعوبة بالغة متوكئا على شاب كان يجاوره، فبادره الشاب بسؤال:

هل تود العودة يا عمي شابا قويا مثلي، فقال:

كلا يا ولدي، فأنا الآن إذا جلست ذكرت الله، وإذا قمت ذكرته، ولا يفتر لساني عن ذكره دقيقة، ولم يكن لي ذلك لو عدت شابا..

هذا المشهد يختصر لنا مفهوم العبادة وفلسفتها واختلافها بين الأمم، والشعوب، وبين الثقافات والحضارات، واختلافها في الأمة الواحدة حسب العصر والزمان، وحسب مكانة الشخص ومنزلته، بل تتفاوت عند الشخص الواحد حسب الفترة العمرية التي يعيشها، فعلاقة الشخص بربه وهو في مقتبل العمر لا تقارن بها في وقت كهولته أو اكتمال نضجه العقلي أو الاجتماعي..

كما أن قرب المرء من ربه فقيرا أكثر من كونه غنيا، ومريضا أكثر منه وهو يرفل في أثواب الصحة، ومحتاجا أكثر منه مستغنيا بماله وصحته ومنصبه وجاهه، والأمور تختلف، وتتفاوت، وإذا كنا سنعتبر هذه قاعدة فما أكثر شواذها.

ولو قدر لك والتقيت بأحدهم فربما سيبادرك بسؤال عن إنجازك في ختمة القرآن، وأين وصلت في التلاوة، وحينما تجيبه يبادر إلى إخبارك بمنجزه هو الآخر، وتزداد الصورة وضوحا في الجلسات العائلية والنسائية منها خصوصا، وكأننا في مدرسة ومكلفون بمنهج يجب علينا استكماله قبل نهاية الشهر..

قد نعتبر ذلك من باب التناصح أو الأمر بالمعروف أو التنافس في الخير، هذا حسن، فرمضان حقا مدرسة لكن ليس لتختيم المنهج، ولا يقاس النجاح فيها بعدد الختمات، بل بما استوعبته عقولنا مما قرأنا، وما تشربته أرواحنا مما تلونا، لا يقاس بعدد الركعات والسجدات، بل بعدد المرات التي شعرنا فيها أننا غادرنا الأرض إلى السماء، وتحللنا من رداء الدنيا وارتدينا بياض التوبة، بعدد المرات التي سكبنا فيها الدموع خالين، وشهقنا من مخافة الله وانتحبنا على ما قدمته يدانا، بعدد المرات التي شعرنا فيها أننا أقرب ما نكون إلى الله..

عندما نشعر للحظات أننا لسنا نحن، بل خلق جديد، بأرواح ملائكية وقلوب سماوية وأخلاق نبوية..

لا يجب ولا ينبغي أن نختزل رمضان في كم ختمت؟ وبكم تصدقت؟ وهل اعتمرت؟ وكم ليلة صليت التراويح؟ وكم ركعة صليتها؟

فعبادة الشيخ الضرير تختلف عن عبادة الشاب البصير، لأن عبادة الأنبياء ليست عبادة أممهم، وكلهم بشر، وعبادة الصحابة ليست عبادتنا وكلنا بشر، وعبادة الصحابة ليست عبادة محمد، صلى الله عليه وسلم..

فالمقارنة بين عبادة أكبر مجتهد من شبابنا في رمضان وعبادة أقل شاب تابعي أو حتى تابعي تابعي.. ستجعل الشاب يصاب بالقنوط وقد يتخلى عن عبادته..

لكن الأمر المريح أن الذي يحاسبنا هو اللطيف الخبير.

واللطيف الخبير يعني أنه يعلم بتغيرات الزمان والمكان واختلافات البشر والظروف والمغريات والملهيات، والمرء منا لا يعلم أي عمل قد يفتح له أبواب الجنة، فقد تدخل الجنة لأنك لقنت والدتك الأمية سورة الفاتحة رغم أنك ختمت القرآن للمرة العاشرة..

وقد تدخل الجنة لأنك ضبطت منبه جوالك على جميع الصلوات المفروضة، رغم أنك صليت التراويح 21 ركعة في الحرم المكي..

وقد تدخل الجنة لأنك أعطيت عامل نظافة قارورة ماء باردة، رغم أنك تكفلت بسقيا مساجد مدينتك..

النجاح في رمضان لا يقاس بعدد الأعمال ولا بكميتها، ولكن يقاس بما أحدثته في روحك من أثر، يقاس باقترابك من الله وأنت شاب بصير لتضاهي الشيخ الضرير، وتذللك لله سبحانه تذلل المحتاج الفقير وأنت المليء

المشهد يختصر لنا مفهوم العبادة وفلسفتها واختلافها بين الأمم، والشعوب، وبين الثقافات والحضارات، واختلافها في الأمة الواحدة حسب العصر والزمان، وحسب مكانة الشخص ومنزلته، بل تتفاوت عند الشخص الواحد حسب الفترة العمرية التي يعيشها

الغني.. وتبتلك لله تبتل المريض العليل، وأنت الصحيح السليم..

لن نكون أنبياء لكن ستأتي لحظة نشعر فيها بطهر النبوة ولسنا رسلا، لكن سيأتينا شعور خاطف بقدسية الرسالة، ولسنا ملائكة، لكن سنشعر للحظات أن لنا أجنحة تبحث عن فضاء رحيب…

ولن يتحقق ذلك بعد الختمات وإحصاء الركعات وتعداد الأعمال الصالحة، ولكن باستشعارها والتلذذ بها والانغماس فيها حتى تحلق أرواحنا مغادرة كوكب الأرض الصغير إلى سماوات من النور والخلود.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia