Al-Watan (Saudi)

حينما سبق الأدب الطب

-

تناول الكثير علاقة الطب بالأدب من ناحية كون عدد من الأدباء الكبار أطباء، كالروسي القاص أنطون تشيخوف، والبريطاني آرثر كونان دويل، صاحب الرواية الشهيرة »شيرلوك هولمز« ويوسف إدريس، القاص العربي الشهير، الذي اعتبره البعض منافس نجيب محفوظ في نوبل، بما فيهم يوسف نفسه، لكن ما لفت نظري هو وجود حالات يكون فيها الأدباء سابقين الأطباء في الالتفات لبعض الأمراض!

‪LOCKED IN‬ SYNDROME هذا المرض من أكثر الأمراض بشاعة، فهو ما إن يصيب المرء حتى يعيقه تماما من أي حركة إلا من حركات العيون، رغم أن الأحاسيس والوعي لا يتأثران، فالمصاب لا يستطيع حتى هش ذبابة تزعجه، ولا أن يلتفت ليلمح من في الأنحاء، ناهيك عن عدم قدرته على الكلام والكتابة، لكنه رغم ذلك واع بكل أحاسيسه. أصيب الناشر الفرنسي جان دومينيك بهذا المرض، حيث كتب نصا عنوانه: »الجرس الغواص والفراشة« بحركات عينه اليسرى وجفنها فقط، هذا بعد أن اخترع هو وممرضته لغة خاصة به يتواصل عبرها من خلال عينه الوحيدة. أخرج جوليان شانيبال فيلما رائعا عن تجربته عام 2007 .

ذُكر هذا المرض أول ما ذكر في المراجع الطبية في ورقة علمية عن تشخيص الغيبوبة ألفها عالما طب الأعصاب بلم وبوسنر عام 1966، لكن ألكساندر دوماس التقط المرض قبل ذلك في روايته الشهيرة »الكونت دي مونت كريستو« المنشورة عام 1845م، حين كتب القطعة التالية واصفا إحدى شخصياته:

»البصر والسمع هما الحاستان الوحيدتان المتبقيتان. كان، رغم ذلك، يستطيع أن يعبر عن أفكاره وأحاسيسه التي ما زالت تشغل دماغه عبر إحدى هاتين الحاستين. كانت النظرة التي يعبر من خلالها عن حياته الداخلية بمثابة بصيص ضوء شمعة بعيد، يراه المسافر في ليل صحراء ما، فيعرف أن كائنا حيا يوجد خلف هذا الصمت والغموض. كان مركّزًا في عينيه المظللة برموش سوداء غليظة، كل النشاط والقوة والذكاء، كل هذا الذي كان من قبل موزعا على جميع أجزاء الجسد، كما يحدث عادة للعضو الذي يستخدم حصرًا لدرجة لا يستخدم عضو غيره. فلذلك، رغم أن حركة اليد، وصوت الحنجرة، ورشاقة الجسد كانت مفقودة، إلا أن العين المتكلمة أغنت عن الكل«.

مثالي الآخر هو عن أول رواية نشرها تشارلز دكنز عام 1837م »أوراق بيكويك«، حيث رسم إحدى شخصياتها سمينا، بالكاد يفتح عينيه آناء النهار من النعاس، وتشوبه حمرة في جلده.

عام 1956 ذهب للطبيب لاعب بوكر ظل يزداد وزنه حتى بدا عليه الإرهاق والنعاس أغلب نهاره، تذكر الطبيب شخصية »جو« من رواية ديكينز حين كشف عليه، ثم نشر ورقة علمية في نفس العام عن هذه المتلازمة فسماها متلازمة بيكويك، نسبة إلى الرواية.

أما مثالي الأخير فهو من الرياضياتي البريطاني المعروف باسمه الفني »لويس كارول« والمصاب بالشقيقة، بحسب مذكراته الشخصية. فهو مؤلف رواية »أليس في بلاد العجائب«، حيث رسم فيها الشخصية الرئيسية »أليس«، وهي تعاني تغيرات في حجمها، فتارة يصغر حجمها وتارة يكبر خلال رحلتها في الرواية. بدأ ظهور اسم الرواية في عشرينيات القرن العشرين في الأوراق الطبية حين تناولوا عرضا دماغيا يشبه ما حدث لأليس. هذا العرض هو أحد اعتلالات الجهاز الإدراكي في الدماغ، وهو تصور الجسد على أنه أضخم مما هو عليه، وفي المقابل العرض الآخر المذكور في الرواية كذلك، وهو تصور الجسم أصغر مما هو عليه واقعا. حتى قام طبيب النفس البريطاني جون تود عام 1955 بصك مصطلح »متلازمة أليس في بلاد العجائب« المتضمن لكثير من اعتلالات الجهاز الإدراكي، بما فيها العرضان المذكوران. هذه المتلازمة قد تكون تمظهرا لعدة أمراض من بينها أنواع من الصرع والشقيقة، لذلك تكهن البعض أن تشارلز دودجسون، أو لويس كارول، قد أصيب بهذا الاعتلال بسبب الشقيقة التي عاناها، فبالتالي وظف تجربته في الرواية.

هذه الأمثلة التقط فيها أدباء تمظهرات أمراض عضوية من محيطهم الشخصي ووظفوها في نصوصهم. أما في مجال الأمراض النفسية فقد نبهني أستاذ علم النفس في جامعة الملك سعود: عبدالله الرويتع قبل سنوات على اعتبار دويستفسكي من أعظم الواصفين النفسيين.

هذا المرض من أكثر الأمراض بشاعة، فهو ما إن يصيب المرء حتى يعيقه تماما من أي حركة إلا من حركات العيون، رغم أن الأحاسيس والوعي لا يتأثران،

هذا الروائي الذي قال عنه أيقونة العلم، ألبرت آينشتاين: »أعطاني دويستفسكي أكثر مما أعطاني أي عالم«،! وقال عنه نيتشه »هو عالم النفس الوحيد الذي أتعلم منه!«

فعلاقة الطب بالأدب، بل وبالفكر والفلسفة علاقة عتيقة على مدى عدة حضارات، فيصعب عليّ تذكر شخصية من شخصيات الطب في التاريخ العربي الإسلامي محصورة في الطب. فانفصال الطبيب عما هو غير طبي هو أمر طارئ، قد يكون مبررا باتساع الطب اتساعا أسُِّيا، لكنه طارئ وليس أصيلا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia