Al-Watan (Saudi)

خواطر من رحلتي

-

من منا لا يحب السفر والتعرف على شعوب وبلاد جديدة؟ قد يكون قصد السفر هو للتسوق أو العمل أو للدراسة، وقد يكون للسياحة، ولكن تظل عملية الولوج إلى عالم جديد يشكل إثارة وإثراء في حياة الفرد منا، بالنسبة لي فأنا عادة ما أركز على الأفراد من حولي ليس للانتقاد أو الحكم، بل فقط لأتعلم عنهم ومنهم، وبهذا أدعم مخزون خبراتي، وفي هذه المقالة سوف أصطحبكم معي في رحلة خواطر وأفكار أثارت فكري وشدت انتباهي خلال الأيام القليلة السابقة من رحلتي إلى ولاية تكساس.

كنت قد قررت أن أكتب عن تاريخ قيادة المرأة للسيارة في أميركا، لأن هذا هو موضوع الساعة في إعلامهم عن الحدث في بلادي، ووجدت تقريبا مصدر الفكر النمطي عن قيادة المرأة للسيارة وأسبابه، وكيف تغيرت هذه النظرة مع مرور الزمن، والأهم وجدت كيف ولماذا طالبت المرأة بالسماح لها بالقيادة، ليس من الدولة لأنه لم يكن أصلا هنالك قانون يمنع ذلك، بل ممن كان في حينها يعتبر ولي أمرها من زوج أو أب، وعرفت أيضا أن القيادة كانت ضمن شريحة الأغنياء، فلهذا لم يمانع المجتمع أو يقوم بالنقد حتى لا يقع في مشاكل مع الطبقة الغنية، بينما كان يرى الأزواج من تلك الطبعة أنها مجرد عملية تسلية للزوجات بدلا من قضاء الوقت في حفلات الشاي والزيارات وما شابه ذلك، أما نساء الطبقة الوسطى فدخلن هذا العالم للحاجة وليس للتسلية، مما فتح لهن عالما جديدا من الوظائف وفرص الكسب، وكل ذلك بعد انهيار سوق الأسهم في بداية القرن الماضي، ولكن من أطلق الصورة النمطية عن قيادة المرأة كان لحمايتها من مخاطر الطرق ومن نفسها، حسب قول أحد المؤرخين لهذه الأحداث، ولكن استمرت هذه النظرة إلى الستينيات، ومنها انطلقت إلى بقية بقاع الأرض مع البرامج الدرامية والأفلام العادية والكرتونية، خاصة أن الكثير منها يتكرر إعادته حتى يومنا هذا في أوقات ما قبل الظهر على التلفاز، رغم الدراسات والإحصاءات عالميا عن النسب المتدنية لحوادث النساء أو نسبة المخالفات المرورية، ما زالت هذه النظرة تجد من يغذيها وينفخ الحياة فيها!

اليوم وجدت نفسي في مكتبة تجارية، حيث يمكن للفرد أن يختار ما يريد ليقرأه قبل شرائه إن أراد ذلك، وقررت أن أتصفح بعض المجلات الخاصة بالمرأة، كنت قد اشتريت من مقصف المكتبة كوبا من القهوة وشطيرة، وبينما أنا مستمتعة في عالمي شعرت بأنني مراقبة، رفعت عيني عن الصفحة ونظرت أمامي فوجدت سيدة في العقد السادس من عمرها، حسب تقديري، فربما كانت أصغر من ذلك، وربما أصغر مني، ولكن خبرتي عنهم علمتني أن المرأة الغربية تكبر شكلا أسرع من المرأة الشرقية، وكم صادفت نساء غربيات أصغر مني سنا ولكن شكلا أقرب إلى سن والدتي! وكم قرأت علامات الاستغراب حين أعلمهم بأنني أسيرة حفيدين دخلا قلبي وتربعا على عرشه! نعود لصاحبتنا... المهم أنها حالما تلاقت الأعين ابتسمت وسألت: هل تباع هذه الشطيرة هنا؟ رددت التحية بابتسامة أوسع، فنحن العرب أهل كرم وأجبتها بنعم، عندها تحركت وهي تقول: مراقبتك وأنت تتناولين الشطيرة جعلتني أشعر برغبة قوية لتناول مثلها! هنا جرى حوار في رأسي: »لو كنت أنا قبل أن أتغير«، وأنا بالمناسبة كثيرة التغير والتقلب، خاصة في الأمور التي أجد أنها من بعد الخبرات والنضج ومع مرور الزمن غير لائقة أو منطقية، »كنت قلت في نفسي يا لطيف! الله يجيرني من عيونها! الحمد لله أنني لم أغص! لكنني الْيَوْمَ غير أمس وغير غدا أيضا«، هنا تمنيت لها وجبة هنية، فأنا لا أعرف كيف نقول بلغتهم »بالعافية«، كلمة جميلة من تراثنا أيضا.

أحب الحدائق خاصة تلك التي تحتوي على »نوافير« أو بحيرة صغيرة في وسطها، وكلما وجدت واحدة اتجهت إليها دون أي تفكير، لأن شيئا ما يشدني ويجعلني أعارض مقاومة من معي لأنهم يرغبون في مواصلة الطريق! كنت أعشق الجلوس على الحشائش لأمتص كل الطاقة الإيجابية التي تجود بها علينا الأرض الطيبة، ولكن مؤخرا سرقت الكلاب المدللة مني هذه المتعة! يجولون ويصولون على عشبي الأخضر جاعلين منه مرحاضهم الخاص! وقبل يومين بينما أنا جالسة على مقعد في حديقة قريبة من منزلنا وجدت نفسي في قلب سيرك، كلاب أشكال وألوان »يتنطنطن« من حولي وكأنني مغنطيس لهم! وهذا ما جعلني أتبرع بالمقعد، إنها الابتسامة بالتأكيد، إرثي من كرم العرب! ترجموا الابتسامة على أنها دعوة مفتوحة للاقتراب! ثم مر أمامي رجل يدفع ما يشبه عربة أطفال، »طفل، أخيرا بني آدم« قلت في نفسي، وإذ أجد داخل العربة قطة داخل »ناموسية« لتحميها من الكلاب! المهم هنا بدأ يدور في رأسي حوار جديد، »يربون الحيوانات ويدفعون دم قلبهم عليها من أكل وشرب ومأوى وعلاج، هذا إضافة إلى مجهود التنزه يوميا حتى ترتاح ولا تكتئب! طبعا تربية الأبناء مسؤولية وتكاليف، ولكن تربية الحيوانات رحمة ورقي وإنسانية! توقفي الآن لستِ هنا لتحكمي، راقبي وتعلمي فقط! الأبناء قد يتركونهم ويذهبون إلى أماكن بعيدة، ولكن تلك الحيوانات تمدهم بالدفء العاطفي الذي يبحثون عنه حتى في العالم الافتراضي من خلال الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي، وربما لتسلية الأبناء وتدريبهم على تحمل المسؤولية، الأسباب عديدة وكلها لا تخصني! ما يهمني أن أنزل من على مقعد الحديقة واستمتع فقط بالجلوس على الحشائش !«

أما زياراتي للأسواق فتلك قصة أخرى، فأنا أعشق التسوق وأدور في معظمها من الشعبية إلى الأغلى سعرا، قد لا أشتري شيئا على الإطلاق، ولكن الخبرة بحد ذاتها أعتبرها ثقافة، الأسعار، نوعية البضائع، الرائجة والمتكدسة، كيفية التعامل مع الزبون، بروتوكولات البيع والشراء، وغيرها مما يحدث داخل الأسواق، والأمر الذي أثار انتباهي مؤخرا هو الأعداد القليلة نسبة لما كنت تعودت عليه في الزيارات السابقة! ومن خلال حديثي مع الباعة في المحلات والأحاديث الجانبية مع بعض المتسوقات استنتجت أن التسوق على النت عن طريق أمازون وما شابهها قد بدأ يأكل السوق لعدة أسباب، منها توفير الوقت والمجهود والتكاليف، غريبة نفس الأسباب التي جعلت المرأة عندهم تفضل شراء سيارة وقيادتها بنفسها في منتصف القرن الماضي! طبعا هناك أسباب أخرى منها التنقل، مما فتح مجالا أوسع لفرص العمل، وهذه الأسباب أيضا تقلصت مع دخول فرص العمل من خلال النت! ولاحظت أيضا ارتفاع عدد كبار السن في الوظائف، وعندما سألت وجدت أنهم يفضلون العمل على التقاعد، خاصة إن كانوا بحاجة لمورد إضافي أو للتخلص من مشاعر الوحدة، أما بالنسبة لأصحاب العمل توفير، إضافة إلى خبرة، حيث إن توظيف الشباب بخبرة يتطلب راتبا إضافيا! بماذا أستفيد من التسوق؟ قد يكون كل شيء وقد يكون لا شيء، لكن فيما بعد دائما ما أسترجع تلك الخبرات وأستخدمها كأمثلة داعمة في محاضراتي أو كتاباتي! المهم أنني وجدت أن الأسواق وعمليات التسوق، سواء كان ذلك للأفراد أو المجموعات، أمر يسهم كثيرا، بالنسبة لي، في التعرف أكثر على مجتمع ما أزوره، وهذا مطلب حتى أستطيع التفاهم معهم وبالتالي أفتح باب حوار بناء ومثمر، وهذا هدفي الأساسي، الحوار مصدر استمتاع وتواصل وكنز إضافي من المعلومات، وهذا عندي أفضل مليون مرة من السير منكسة الرأس على جهاز يربطني بعالم افتراضي غالبيته لن يلاحظ غيابي أو حضوري، إن لم يكن يدق على نفس التفكير أو الرأي! أفضل الواقع حيث أرى وأشعر وأشارك بكل جوارحي دون أن أحاول أن أتلمس طرقا من خلالها أتوصل للتفريق بين ما هو حقيقي أم مجرد تزييف وتضليل!

الأمر الأخير الذي لاحظته في هذه الولاية هو أن المجتمع ما زال متمسكا بالأسرة، والتقاليد والدين يعتبران من الأهمية، بحيث أن فكر أحدهم في بناء أسرة وإنجاب أطفال يفكر في شراء أو استئجار منزل في حي آمن من حيث توفر الجيران والكنيسة والمدرسة الأفضل لأبنائهم، خيارات لا يمكن التنازل عنها.

زيارتي لم تنته بعد وما زال أمامي زيارة المتاحف ومؤسسات التعليم العالي، خاصة مكتباتهم، والمراكز البحثية الخاصة أو التابعة لهذه المؤسسات، الفرص متعددة والخبرات أكثر والمجالات مفتوحة أمامي، ولن أدع أي شيء يبعدني عن هدف التواصل والاستمتاع بكل لحظة تعلم.

الحوار مصدر استمتاع وتواصل وكنز إضافي من المعلومات، وهذا عندي أفضل مليون مرة من السير منكسة الرأس على جهاز يربطني بعالم افتراضي غالبيته لن يلاحظ غيابي أو حضوري

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia