Al-Watan (Saudi)

نظرية التعلم الاجتماعي

-

للمحيط الاجتماعي دور رئيس في تشكيل فكر وثقافة وسلوك الإنسان، ابتداء من مرحلة الطفولة المبكرة التي يسعى فيها إلى محاكاة أقاربه في المشي والكلام، وتقليد والديه في طريقة كلامهم والتعبير عن انفعالاتهم، وانتهاء بانخراطه في مجتمع يتجاوز حدود الأسرة حين يدخل المدرسة ليختلط بعدد كبير من أقرانه الذين يحملون بدورهم سلوكيات أخذوها عن مجتمعهم الأسري، ثم يتسع نطاق التقليد لديه ليشمل ذلك المجتمع الجديد الذي يحوي المعلمين والأصدقاء وغيرهم.

خلال القرن الماضي، أسس عالم النفس الأميركي »ألبرت باندورا« ما يُعرف بنظرية التعلم الاجتماعي ‪Social learning)‬ theory،( وتقوم هذه النظرية -باختصار- على ركنين أساسيين هما: الملاحظة والتقليد، وذلك أن الإنسان -بحسب النظرية- يتعلم العديد من سلوكياته عن طريق ملاحظة سلوكيات الآخرين ثم القيام بمحاكاتها، إذن فهناك -حسب النظرية- ملاحِظ أو متعلِّم، وهناك ملاحَظ، ويسمى أيضا »القدوة« أو »النموذج«، وكذلك فإن للثواب والعقاب الذي يتلقّاه الملاحَظ نتيجة سلوكيّاته، وردّة فعله تجاهها دورا في تعزيز فرصة محاكاتها وتبنّيها من قبل الملاحِظ، أو تركها والانصراف عنها، ولا تقتصر هذه النظرية على الأطفال والمراهقين فقط، وإن كان داعي التقليد في حقّهم أقوى، بل تشمل مختلف الأعمار.

وعلى ضوء ما تطرحه النظرية، فليس بالضرورة أن يضطر الفرد لخوض جميع التجارب بنفسه حتى يتعلّم، ولكن يمكنه اكتساب الخبرة بصورة غير مباشرة عن طريق ملاحظة ما يتعرض له الآخرون من ثواب أو عقاب كنتيجة لتجاربهم الخاصة، فقد يتجنب المتعلِّم -على سبيل المثال- الإقدام على فعل ما، لأنه شاهد أحد إخوته يتعرّض للعقاب من أبيهم جرّاء ارتكاب الفعل نفسه، فأسهم ذلك في امتناعه عن محاكاة أخيه، والأمر على عكسه فيما يتعلّق بالثواب الذي يشكّل حافزًا للتقليد عند الملاحِظ.

وبالعودة إلى مصادرنا الدينية وموروثنا الثقافي المسطور أو المحفوظ، سنجد أن ماهية الصاحب الذي يمكن أن يكون »قدوة« أو »نموذجا«، والإشارة إلى مدى التأثير الذي يمكن أن يتركه على صاحبه »الملاحِظ« أو »المتعلِّم« تحظى فيها باهتمام بالغ، فعلى الصعيد الديني تطرق القرآن والسنّة إلى هذه المسألة تلميحا وتصريحا في أكثر من موضع، ومن ذلك قول الله -سبحانه وتعالى- في معرض الحديث عن حال الكافر يوم القيامة: {يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا}، وقوله تعالى مخاطبا نبيّه -صلى الله عليه وسلم-: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيِّ يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}، ومن السنة يقول نبيّنا الكريم -صلى الله عليه وسلم:- »الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل«، ويقول: »مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير...«، إلى غير ذلك مما لا يتسع المقام لذكره.

بالإضافة إلى ما تحويه ذاكرتنا الثقافية حول جوهر النظرية المذكورة من حكم وأمثال تناقلتها الأجيال أو حدثت بها الكتب، من قبيل المثل الشهير القائل: »قل لي من تصاحب، أقول لك من أنت«، و »الصاحب ساحب، فانظر من تصاحب،« وتقول العرب: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي، عدا عن الأمثال العاميّة التي يتداولها عرب اليوم، والتي تحمل المدلولات عينها.

ومن الأهمية بمكان التنبّه إلى أن الوسائل الإعلامية تستطيع تجسيد »القدوة« التي يسعى الملاحِظ أو المتعلِّم إلى محاكاتها، فالمقاطع المرئية والصوتية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمسلسلات والأفلام الواقعية أو الكرتونية وغيرها، تشكّل في مجموعها سلاحا ذا حدّين، فقد يكون تأثيرها إيجابيا وبنّاء، أو سلبيا وهدّامًا.

في الختام.. يجب التنويه إلى أن المحاكاة أو التقليد يخضع لعدّة عوامل تتعلّق بحالة المتعلِّم الشخصية والنفسية، وكذلك بالنسبة للملاحَظ أو القدوة ومدى ما يتمتع به من عوامل جاذبة للملاحِظ من شهرة أو سُلطة أو مكانة مرموقة أو نحوها، ومدى التكافؤ بين الملاحِظ والملاحَظ من حيث العمر والجنس وغيرها، ويمكن البحث عن المزيد من التفصيلات حول النظرية في مظانّها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia