Al-Watan (Saudi)

الحج قديما: الطريق إلى مكة شهران والدرجة الأولى بƠ 12 ريالا

طريق وعرة عودة منهكة

- بريدة: علي الحربي

كل عام ومع اقتراب موسم الحج لا يغيب عن أذهان كبار الســن في المملكــة مشــهد أول حجة، حيث الغربة عــن الأهل، ومدة الســفر، ووعــورة الطريــق، والاختلاط مع حجاج آخرين لا يعرفون ســبيلهم، ولا يتقنــون لهجتهــم، ولا كيف مأكلهم ومشربهم، ليعودوا إلى أهلهم وأوطانهم مُحملين بالهدايا والأجر، والذاكرة »المذهولة« من هول المنظر. يقول العم مبارك ـ الذي تغطي عيناه طبقات الجلد وكأنها تكتب على جبينه عدد الســنين ـ »أنا أختلف عن غيري مــن أقراني الذين تجمعنــي بهم رعاية الغنم والإبل، فقد كنت محظوظاً لأن والدي كان ينقل الحجاج بواسطة سيارة »البلاكاش« وقبلها على»ركاب الإبل،« فعندمــا كنت في الثامنة عــشرة من عمري أخبرني والدي أن الحج على الأبواب، حيث أنهينا للتو شــهر رمضان المبارك ونتلقى التهاني بعيد الفطر، وبدأ الناس يتوافدون على والدي للسلام وحجز مقعد في ســيارة »الفرت« و»اللوري« حيث استطاع والدي وأعمامــي الشراكة وشراء ســيارات موديل 1940، ويســمي الناس آنذاك سيارة»الفرت« بـ»البلاكاش« لأن صاحبها يبني عليها خشــبا، ويصنع منه دورين للأمتعة والركاب، بالإضافة إلى»السلّة« وهي منطقة في أعلى »الغمارة«. أضاف مبارك »كان والدي يُقسّــم السيارة على ثلاث فئات كل فئة برســوم، حيث هناك »الغمارة« بجانب السائق، وهي بمثابة الدرجة الأولى في الطائرة حاليا!، وفيها يجلس الحاج على مرتبة إسفنجية ويستمع ربما للراديو أحيانا بحسب تشدد الركاب الديني ونظرتهم لمسألة تحليله من تحريمه، وقيمة »الغمارة« 12 ريالا، والركاب لا يتجاوزون خمســة أشخاص مع السائق، وأتذكر أن والدي ســمح لي بمرافقتهم حينها وتأدية الحج لأول مرة وكان أبي هو الســائق، وكنت أجلس بينه وبين الباب لنحافة جسمي!«. وتابع أن »الموقع الثاني الذي يجلس فيه الحجاج هو »الســلّة« وقيمتها 7 ريالات للشخص، ومن المميزات التي يتمتع بها الراكب فيها أنه يتمتع بمنظر السفر، وقلة الزحام، والهواء الطلق، وعدد ركاب الســلة من الخمسة إلى السبعة بحسب وزن الجسم، ومن يرتبهم السائق و»المعاوني« وهو مساعد السائق، وفي الغالب يكون قريبــه أو صديقه ويكون مــن أهل المعرفة والحل والعقد والحكمة، وأخــيراً هناك حجاج الـ5 ريالات، وهم الذين يجلســون في »الصندوق« وسط الزحام والأمتعة، و»عزبة الطبخ«، وربما تكون معهم حيوانات وطيور لغرض الأكل، وعدد الركاب هنا من 20 إلى 30 بحسب مساحة السيارة المتبقية والأمتعة«.

ولا تكتمل تلك المشاهد في أذهان جيل الســيارة والطائرة والتقنية ومخيمات الخمس نجوم؛ إلا عندما يرويها العم »الســبعيني« مبارك نايف المســعد، مســتذكراً فواصل جميلة لزمن الطيبين. يضيف العــم مبارك المســعد: أن »الحجاج ينطلقون قبــل الحج بشــهرين ناحية مكة المكرمة عبر الصحراء، وفي الطريق كان البعض يموتون بسبب المرض، ويتم دفن المرء في موقع وفاته ومتابعة المشــوار، وكانت الســيارات تغوص أحيانا في الرمال، ويبقى الحجاج يومين أو ثلاثة أيام وهم يحاولون إخراجها ومواصلة الطريــق، وكان الناس يســاعدون بعضهم، حيث يتوقف أهل الإبل المسافرين للحج لإنقاذ أصحــاب »الفرت«، ويتبادلــو­ن معهم الأكل والشرب ويعالجون المرضى، ويصفون الطريق الوعرة للهرب منها .« يصف الشيخ مبارك كيف يؤدي الحجاج الركن الخامس من أركان الإسلام بجهل وبراءة، لأن غالبيتهم يسيرون خلف بعضهم بين المشاعر دون ترديد الأذكار أو إتمام الشــعائر، وكان منظر العيد الأكــبر لا يفارق مخيلته والناس يهبون لنحر»الهدي« وأكل جزء منها، ويقضون أيامهم الثلاث في مشعر منى بين الرمي والطبخ والشوي في الهواء الطلق، وفي بطون الأودية دون اكتراث بحرارة الشمس المرتفعة. ويصف العم مبارك رحلة العودة من يرى مبارك »أن لحظة الوصول للأهل والأولاد مليئة بالمشاعر المختلطة بين الفرح والبكاء، حيــث يترقب الناس وصولهــم، وتجري لهــم ترتيبات وصول طريفة تتزاحم في لحظة اللقاء بهم أســئلة غريبة عن شكل الكعبة، وهل رأيتــم »إبليــس وأولاده،« ثم يتناول الجميع »المفطحات« ابتهاجا نفس تلك الظروف والمعاناة عاشها سبعيني آخر هو العم محمد عقاب الراشــد الذي لم يكتب له الحج ســوى مرة واحده، إلا أنه لا يزال يتذكر تفاصيلها غير أنه لم يكن مطمئنا لكمالها بسبب ما أسماه بِـ»الجهل« في تعاليم الركن الخامس. يقول الراشــد ـ وهو أب لـ 13 نفســا أدوا فريضتهم وشــهدوا النقلة النوعية لخدمات الحرمــين الشريفين ـ »كنــت يتيما ومتيما بالذهــاب للحج؛ ورَقّ قلــب عمي على قلبي الذي يتفطر شــوقا لمكة، وعزم على الحج مع أصحابه وأقاربنا وطلب من والدتي مرافقتهم، ووافقت والدتي على سفري معهم، وانطلقنا عبر 20 جمــلا وناقــة؛ وكان عمي يمتطي صهوة الجمل وأنا رديفــه، وغادرنا أطراف البلدة التي كنّا نســكنها وصوت بكاء والدتي لم يفارقني، غير أن فرحتها بإتمام نســكي كان البلسم على قلبها، وواصلنا طريقنا غرب القصيم نحو مكة ونحن مجموعة من الرجال، وكنت أصغرهم، وكلما أظلم الليل ترجلنا عن »المطايا« للراحة والنوم، ولأنني لم أنسَ وصية والدتي بخدمة الحجــاج كنت أجمع الحطب وأوقد النار للطبخ.« الحج بعد إتمام النسك بـ»الأصعب« قائلا »بعد الفرح والحماس والتعاون الذي كان عليه الحجاج منذ شهرين تكون رحلة العــودة منهكة، ولكنهم رغم ذلك يعودون محملــين بالهدايا إلى أهاليهــم، وفي الغالب لا تتجاوز الهدايا الســبحة والمســواك والحلوى، غير أنها تصل للمستفيد الأخير مليئة بالأتربة نتيجة »التغريز« وسط الرمال، لأن السائق ـ في هذه الحالة ـ يجبرهم على إنزال جميع الأمتعة للمساعدة في دفع السيارة!«. بوصولهم، وفي الغد ينخرط الحجاج بالعمل مع أهلهم في رعي الأغنام والإبل والزراعة غير آبهــين برحلة الغفران التي استمرت أكثر من 80 يوما«. تابع الراشــد قائلا »أمضينا نحو 30 يوما في الطريق، وعند الوصول كانت فرحتي لا توصف، وكنت أظن الجمرات وعرفة داخل الحرم المكي..!، وبقينا هناك شهرا ونصف الشــهر حتى أتممنا حجنا وعدنا إلى أهلنا واستقبلونا استقبالا حارا أنسانا مشقة العودة على ظهور الجمال«. يتذكر العم ســعد مطر حجتــه الأولى برفقة والدتــه وفي حلقه غصّة، ومحاجر عيناه دموع تسقط دمعة دمعة كلما تذكّر سكرات الموت وهي تداهم والدته أثناء مسيرهم بين الجبال ناحية مكة. يقول مطر »كنت لا أتجاوز الخامســة عشرة مــن عمري عندما رافقت والدتي للحج، وغادرنا القصيم على ســيارة تسمى الـ »الفورت الأحمر« بصحبة عدد من الرجال والنســاء، وكنّا في الصندوق؛ النساء في المقدمة والرجال في الخلف، وشــقينا طريقنا نســابق الزمن ونستبق عشرات الحجاج، منهم من يركب الســيارات، ومنهم من يمتطي الإبل والحمير، وعندما وصلنا مشارف جبال مكة أحسّت والدتي بتعب شديد، وحاولنا إنقاذها ولم نكن نعرف ما أصابها، ونزل الحجاج في أحد الأودية والنساء يحلقن حولها، واستعنّا بالناس غير أننا لم نفلح في إيجاد سبب للشفاء، وبقينا في الموقع يوما كاملا، وفي المســاء داهمها الأجل وتوفيت، وابيضّت عيناي من الحزن لفقد والدتي، وحملناها وأكملنا مسيرنا إلى مكة وهناك تم الصلاة عليها، وبقيت أتنقل بين الحجاج أبكي تارة وأدعو لأمي تارة ولم أحج، وعدنا وأنا في حالة صعبة، وأخبرنا أهلنا بوفاتها وتجدد البكاء والحزن، وبقيت أشهر عديدة على هذا الحال.«

 ?? (الوطن) ?? حجاج في المشاعر المقدسة قديما
(الوطن) حجاج في المشاعر المقدسة قديما
 ??  ?? طبيعة وسائل النقل بموسم الحج في الماضي
طبيعة وسائل النقل بموسم الحج في الماضي
 ??  ?? صورة قديمة للكعبة المشرفة
صورة قديمة للكعبة المشرفة
 ??  ?? حجاج يستقلون حافلة نقل
حجاج يستقلون حافلة نقل

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia