Al-Watan (Saudi)

العمومية في التخصصات الصحية

-

أذكر منذ سنين، أنني وبرفقة بعض المتدربين في طب الأسرة بإحدى العيادات، وفي انتظار المريض التالي، تناولنا موضوع الفرق بين طبيب الأسرة والأطباء في التخصصات الأخرى.

ومن باب الجدل وضرب الأمثلة، أجبت إجابتي المعهودة بأن الفرق بينهما كالفرق بين المثقف والعالم، ثم نهضنا جميعا لاستقبال المريض وبدأنا الاستشارة، وبعد أن انتهينا سألني أحد المتدربين بعفوية عن الفرق بين العالم والمثقف، فالتفت إليه ووضعت ما في يدي لأجيبه فقلت: افترض أن العلم هو بحار العالم ومحيطاته، فالعامّي كالذي يسكن الشاطئ لا يعرف عن البحر إلا ما أحاط به ناظره وما سبح فيه، والمثقف كالبحّار يرى من البحر أضعاف ما يراه ساكن الشاطئ، ولكنه لا يعرف كثيرا عن باطنه، والعالم كصائد اللآلئ الذي يرى البحر من سطحه إلى قعره في البقعة التي يغطس فيها.

فقال المتدرب: أليس العالم أفضلهم؟، فحرت جوابا، لم يسعفني فيه إلا دخول المريض التالي. ولكنني بعدها التفت إلى المتدرب وقلت: بل هناك من هو أفضل منهم جميعا؟ فالتفت إليّ مستجديا الإجابة، فقلت: أفضل من المثقف والعالم، العالم المثقف.

لا أظن أن المتدرب وعى مني شيئا ذاك اليوم، كما أنني لم أدرك تماما ما أعنيه إذا حاولنا إسقاط ما توصلت إليه على أصل المثل، فما هو التخصص الذي يجمع بين المحورين؟ وكالعادة سبحت في تخصص طب الأسرة وفروعه الدقيقة، تطبيقا للمثل، ولأنني كنت مقتنعا أنه إن وجد هذا التخصص فهو نادر الوجود والأتباع، ولكنني في نهاية المطاف لم أقتنع، ثم مللت وتناسيت الموضوع تماما.

ما ذكّرني بهذه الحادثة، هو أنني مؤخرا اطلعت على مقالة علمية تتحدث عن دور العمومية في التخصصات الصحية، وكيف أنه يجب المحافظة على مستوى أدنى من الممارسة العمومية بين جميع الممارسين المتخصصين، إذ أشار المؤلف إلى أهمية أن يبقى الممارس الصحي على اتصال دائم بالممارسة العامة، حتى يستطيع التصرف إذا دعت الحاجة إلى تدخله، في وضع قد لا يكون من صلب تخصصه. وهو طرح ذكي في نظري، فإن تعلم المهارات الحاسوبية المكتبية والتمكّن منها لا يُعذِر المرء من تجويد خطه ومهاراته الإملائية في الكتابة اليدوية، وإلا فكيف سنتصرف إذا انقطعت الكهرباء. ربما يجب على جميع الممارسين الصحيين أن يكونوا علماء مثقفين، لا فرق بين تخصص وآخر، إلا في مجال العلم المتخصص، أما الثقافة فهي عامة وليست حكرا لأحد، وكي أقرّب المفهوم قمت بطرح تساؤلات حول رأي الناس إن هم رأوا طبيبا استشاريا في أمراض العيون، ولكنه لم يغنِ شيئا حين تم استدعاؤه في الطائرة لمعاينة مريض بالتسمم الغذائي، أو استشاري الأورام الذي حضر حادث سير ولم يستطع إقامة كسر في الساق ليسمح للدم بالجريان في العروق، مما أدى إلى بترها.

إن الإقرار بأهمية المحافظة على قاعدة عمومية في الممارسة الطبية بين جميع الممارسين، تترجم بابتكار أدوار روتينية يقومون بها، وتضمن استمرار تمكنهم من تلك الممارسة طول فترة الخدمة -في نظري- هو هدف يرتقي إلى مستويات أهداف الأمن القومي لأي دولة تطمح في مواجهة الأزمات الوطنية بخطط طوارئ مدروسة وممنهجة، يُرجح لها النجاح بحد أدنى من الخسائر، وهنا، حيث نقف جميعنا على صعيد واحد دون تمييز ذي شأن إلا بما نملكه من مهارات تمكننا من إنقاذ حياة الناس بحول الله تتلاشى حدود التخصصات، وتضمحل هالاتها وتبرز الأصول ويشتد وهجها، وتعظم الصدمة بغفلتنا عن الأساسات التي تهافتت مع أضعف اهتزاز في وقت كنّا نعول على ثباتها وصمودها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia