Al-Watan (Saudi)

متفرقات حول زمان التيه الصحوي

- خالد العضاض

أربعون عاما يتيهون بلا هدف معين، تحملهم عاطفة مشبوبة، وحب للخير لا حدود له، وتوق فريد لرضا الله تعالى والجنة.

هذا هو حال بعض أفراد المجتمع السعودي الذين اجتالتهم الصحوة عن فطرة التدين إلى شيطانية التأسلم الذي حوى كثيرا من القيم والمبادئ السُفلية التي أهمها حب الرئاسة، وتنافس السلطة والتسلط والجشع والظلم والإفك، والقائمة ممتدة وطويلة لا تنتهي، بل والعجيب أن القائمة تتجدد وتنضاف إليها قيم ومبادئ جديدة كل فتنة.

( تحدث الكثير عن مدن بعينها أنها الأشد تزمتا وتطرفا، ثم الأكثر تحولا عن التشدد إلى النقيض السيئ أحيانا، وفي ظني أن هذا وذاك غير صائب، فالأمور نسبية، والتركيز على جزئية معينة في الحدث »الزمكاني« تُفقِد الرصد والنقد الشمولية وعقلانية الحكم وواقعيته.

وحينما يوصف المناخ العام في المملكة بالتزمت -كما في بعض الدراسات- فهو وقوع في فخ التركيز على زاوية معينة، وهي الحراك الصحوي، إذ إنه وفي عز عنفوان الصحوة كانت منظومة الفنون -النقيض الأوضح لفكر الصحوةقائم­ةً، ومستمرةً، ومنطلقةً، قد تكون في حالة جزر في بعض الأوقات والمواقف، مقابل المد الصحوي، لكنها كانت متدفقة لا يعوقها شيء، سوى الدعاية المضادة والعمل على المتلقي، وهو ما أجادت الصحوة استثماره بامتياز.

كل مناطق المملكة ومدنها ومحافظاتها، فيها كل أطياف الفكر الصالح وغير ذلك، ولا تنفرد مدينة عن أخرى بشيء من ذلك، كلها فيها الجميل وغير الجميل، أسهم أبناء تلك المناطق في بناء الوطن، وأسهم بعضٌ آخر منهم في الوجع الذي أصابنا، والأمر نسبيّ، ولا يوجد رصد حيادي، وكل من تكلم يرى أن وصف تلك المنطقة أو أختها بذلك الوصف يعلي من شأن منطقته على حساب المنطقة الأخرى، المهم والأكبر شأنًا السعودية، وليس جزءا من السعودية، كلنا رقعة واحدة داخل حدود جغرافية واحدة، هكذا يجب أن ننظر إلى أنفسنا، وهكذا تنظر إلينا حكومتنا.

( تكمن كارثية التحول الفكري من التشدد إلى الانفتاح، والتي ركبها كثير من متشددي الأمس، في أن هذا المتحول أحال حياتك جحيما مستعرا، بفتاوى وأفكار خارج نسق الحياة السوية، ثم تحول عن أفكاره وفتاويه تلك بعد زمن يطول أو يقصر، ليضعك -كمتدين بسيط أو متابع عامي- في حيرة توازي قسوة التشدد والتنطع ذاته.

وتبرير عملية التحول بكونها صفة لازمة وملازمة للكائن الحي، أو أن المفكر الحر هو من لا تأسره الأفكار وينتقل من فكرة إلى ضدها بحرية، أو غيرها من التبريرات الواهية، ما هو إلا تعذير فجّ لقبائح التأسيس والمنطلقات ابتداءً.

مشكلة المتحولين فكريّا أنهم فهموا الإسلام وفقا لمناهج مقولبة ومتكلسة معرفيّا، وأضافوا إليها نسبة كبيرة من القصور البشري، ثم أعادوا إنتاج تلك المفاهيم المقولبة مرة أخرى كخلاصات أو قواعد شرعية واجبة الأخذ أو واجبة الترك.

وعندما جاءت محكات حقيقة لفحص تلك المفاهيم، تهاوت مع أول ضربة في أذهان أصحابها، ومع هذا كله يبقى التحول صفة إيجابية، ما دامت موافقة لمفاهيم الإسلام وتستلهم روحه الإنسانية وقيمه العليا. أما تحول الرموز فهو محل نظر وتحفظ كبير، خصوصا إنْ تورط ذلك الرمز في دم أو تكفير، لأن الجديد في الأمر -وبعد فتنة الحمدين- ما اكتشف الناس من أن أمور التحول تلك لم تكن سوى تكتيكات حركية تقتضيها المرحلة لكسب أكبر مساحة من الأتباع، والتوهيم بالتغير لتمرير أجندات تم الكشف عنها وفضحها، بفضل الجهود الأمنية لأجهزة الدولة، وبفضل جهود العلماء والمثقفين الذي حملوا على عواتقهم فضح تلك الممارسات، على الرغم من العنت والخطر اللذين يواجهونهما كل مرة من أولئك المغيبين الذين يتحركون بأجهزة التحكم عن بعد.

( فكر الجماعات المتطرفة فكر متراكم، بُني على مدار عقود طويلة، وهو فكر له خاصية التحول والتقولب والكمون، والظهور في فترة دون أخرى، ومجتمعنا المسلم له منطلقات شرعية ينطلق منها بطريقة معينة فيُنتِج رؤيةً تؤسس لعمل حضاري متسامٍ متسامح، يحفظ للحياة نصيبها وللآخرة حظها، ذات المنطلقات يمكن الانطلاق منها لتأسيس فكر قاتل ومدمر يهدم كل جميل في الحياة، المفصل هنا وهناك هو الفهم البشري للنص، ومدى إنزاله بالشكل الصحيح على الواقع، إضافة إلى غياب أو حضور القيم العليا.

ومجتمعنا مجتمع عربي له مميزات العربي ونقائصه، فيه الكرم والنخوة والنجدة، وفيه العاطفة المغرقة والتعجل والتوجس من الجديد والغريب، وجماعات التطرف الحديثة نبعت من فكر ومنهج عربي صرف، لا يصعب عليها أن تجد لها مستندات ومبررات في ذهن من أراد تسويغها، أضف إلى ذلك بعض الظروف الحضارية المتدنية، مثل تردي الوضع الاقتصادي للفرد، وغياب الفنون، وغياب الجمال بشكل عام، كلها تجعل للتطرف والإرهاب فرصة المرور والاختباء في الزوايا، وبعض التفاصيل البعيدة عن العين، والسبب المهم والأكبر الذي يجب ألا نتغافل عنه هو وجود بعض عرّابي هذا الفكر بيننا، ممن لهم رواج وحضور كبير في المشهد السعودي، وعلى الرغم من جهود الدولة الأخيرة -أيدها الله- إلا أننا لم نقضِ على منابع التطرف بشكل مبرم، وما زال الأمر يحتاج إلى الاستمرار في الجهود ذاتها التي بلغت قمة تكاملها واكتمالها العملياتي والتنفيذي، وما تزال بحاجة إلى جهد أكبر على مستوى الفكر والنظرية.

( كانت معضلة الخطاب الصحوي كامنة في السعي إلى تحقيق المعادلة المستحيلة، وهي: طهورية المجتمع، لتحقيق عدة مكاسب ستكون عميقة لو كتب لها الفلاح والنجاح، أهمها:

- سهولة تجريم الفرد والحكومة ومختلف التكوينات الاجتماعية المضادة أو غير المرغوبة منهم.

- تزكية غير مباشرة لكل المنضوين تحت التيار أو التنظيم.

- إيهام الأتباع والمتعاطفي­ن بصوابية التوجه.

والأخير هو ما جعل هؤلاء الأتباع يتبنون الخطاب ذاته »السعي إلى بلوغ المجتمع الطاهر« كالإستراتي­جية التي يتبعونها أو يحاولون اللحاق بها، ومن هنا جاء الانفصام بين الأقوال والأفعال لبعض الأفراد في مجتمعنا، يتناقض بسبب ضغط الخطاب الصحوي ومجانفته طبيعة النفس البشرية.

المفارقة أن الدور الأكبر لمعالجة ظاهرة التطرف كانت يوما ما مناطة بالخطاب ذاته، وهنا بلغ التناقض الصحوي مبلغه، للإيهام بالبراءة والبعد عن الفتنة ومواضع التأليب، ففي خطاب صحوي عالي الصوت، يكفر المختلف عقائديّا، بل وفقهيّا في حالات، ويروم في الوقت ذاته معالجة التفجير وإهدار الدماء، وهما من مقتضيات التكفير ولوازمه، ولهذا جاءت أهمية تجديد الخطاب الديني السعودي بعمومه أولا، ولا أعني تجديد الخطاب الديني كما يرد في أدبيات المتأسلمين: من إعادة بث مفاهيم إسلامية مندرسة في نظر أولئك الإسلاميين، وفقا للمنهج ذاته، والفكر ذاته، بل يجب أن يكون التجديد ولوجا على فضاءات جديدة تماما في الفكر الإسلامي الحضاري، والذي يزخر به الإسلام.

تكمن كارثية التحول الفكري من التشدد إلى الانفتاح، والتي ركبها كثير من متشددي الأمس، في أن هذا المتحول أحال حياتك جحيما مستعرا، بفتاوى وأفكار خارج نسق الحياة السوية

ووفقا للمنهج التجديدي الرشيد، فإن لإشاعة الفنون وتبني نشر الحب والتسامح والتعايش وإفشاء قيم الجمال والعدل والخير، أثرا كبيرا في مكافحة قبائح الصحوة والقضاء عليها، كما أن التركيز على النشء وإعادة صياغة المناهج الدراسية، وتبني تجديد كامل وشامل لمنبر الجمعة، وإتاحة الفرصة للمرأة لقيادة الحلول والبدائل، وتوجيهها لمكافحة هذه الظاهرة، نتائج باهرة وغير متوقعة إيجابيا.

أخيرا، للحديث حول زمان التيه الصحوي بقايا، سنتعرض لها بين الفينة وأختها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia