Al-Watan (Saudi)

الفقه اللاهث: نظرية سد الذرائع

- خالد العضاض

يحاصر الفقهاء -وفي ذيلهم جماعات كاثرة من الوعاظالنا­س في حياتهم ومعاشهم بكثير من الأحكام الشرعية الظنية والمحتملة، المقيدة والمعيقة للمباح، وهذا الأمر ناجم عن تغليب بعض الآراء الفقهية التي يستمدها الفقهاء من بعض النصوص »الأدلة« بحسب فهمه وإتقانه فنون الاستنباط واستقصاء الأدلة، ومعرفة صحيحها من سقيمها، وبحسب تضلعه من علوم القرآن الكريم، والسنة النبوية، واللغة العربية، وأصول الفقه، والقواعد والنظريات الفقهية، وكذلك بحسب طبيعة الفقيه وأحواله النفسية وتربيته ونشأته وبيئته وتمتعه بثقافة واسعة، ودرايته بأحوال الناس وطرائق عيشهم وحياتهم، وهنا بالذات يكمن الفرق الجوهري بين الدين والتدين، إذا اعتبرنا أن الدين هو: ما نزل من عند الله تعالى صافيا خالصا، على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فبلَّغه كما نزل نقيا واضحا بلا لبس، أما التدين فهو ما يمكن اعتباره: الإضافات التي وفرتها الآراء والتفاسير المختلفة للدين، والمؤسسة على الفهم البشري، وما يعتري هذا الفهم من نقائص ومثالب، ويتضح ذلك جليا من خلال تضارب الأحكام والنتائج في بحث مسائل الفروع الفقهية المختلفة، حتى أنه يندر وجود مسألة فقهية ليس فيها خلاف أو مجموعة من الآراء المتقاطعة، والصواب فيها دوما واحد غير متعدد، وهو الدين الذي تسعى هذه الاجتهادات إلى الوصول إليه.

ومن هذه الآراء والنظريات التي جاءت بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة، »نظرية سد الذرائع«، والتي تم استمدادها واستنباطها من مجموعة من الأدلة، بحسب فهم القائلين بها من الفقهاء، ولعدم انضباط هذه النظرية، انقسمت حولها المدارس الفقهية الأربعة على قسمين متوازيين: مدرستان تأخذان بها، هما المالكية والحنبلية، ومدرستان لا تعتبران لها أي وجه صحيح أو إمكانية إعمال في الأحكام الفقهية والفتاوى، وهما: الحنفية والشافعية.

وحتى نفهم المسألة بشكل مبسط، ومن بدايتها، نقول إن الأصوليين يقسمون الأدلة التي تستند عليها ثبوتية الأحكام والتكاليف الشرعية على المسلمين إلى قسمين: الأول: أدلة متفق عليها وهي: دلالة القرآن الكريم، أو السنة النبوية، أو الإجماع، أو القياس على الحكم.

والثاني: أدلة مختلف فيها وهي: دلالة الاستصحاب، أو شرع من قبلنا، أو دلالة المصلحة المرسلة، أو قول الصحابي، أو الاستحسان، أو العرف، أو سد الذرائع على الأحكام، بمعنى أنه حينما يفتي المفتي أو الفقيه في مسألة شرعية، يكون الحكم بدلالة الدليل آية من القرآن الكريم أو حديث نبوي، أو إجماع أهل العلم من الصحابة أو التابعين أو غيرهم، أو قياسا على حكم ثابت بآية أو سنة، أو يفتي بذلك من باب سد الذرائع الذي يراه الفقيه نفسه بحسب ما عنده من بضاعة معرفية وعلم وفقه، وبحسب ما لديه من سعة بال وسماحة.

والذرائع: جمع ذريعة، وهي الوسيلة والسبب إلى الشيء، وتذرع فلان بذريعة، أي: توسل بها، ويُقال: فلان ذريعتي، أي: سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك. »لسان العرب، ‪.«93/ 8‬

وأول من قال بنظرية سد الذرائع، المالكية، أتباع إمام دار الهجرة مالك بن أنس -رحمه الله- وتابعهم على ذلك الحنابلة أتباع الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- وبما أن أول من قال بنظرية سد الذرائع المالكية، فستجد أن جلّ الدراسات في القديم والحديث حول هذه النظرية جاء من أتباع هذه المدرسة الفقهية، ومن هنا فإن أكثر التعاريف الاصطلاحية للذرائع تنسب للمالكية، قال الشاطبي، رحمه الله، »قاعدة الذرائع حكَّمها مالك في أكثر أبواب الفقه«. )الموافقات، .(182/5

وطلبا للاختصار سأضع تعريفين للمالكية والحنابلة على النحو التالي:

قال الشاطبي المالكي، رحمه الله، في تعريفها: »التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة«، »الموافقات، 183/5«، وقال في موضع آخر »منع الجائز؛ لأنه يجر إلى غير الجائز «، »الاعتصام، ‪«154/ 1‬

أما ابن تيمية الحنبلي، رحمه الله، فقد قال »والذريعة ما كانت وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولهذا قيل: الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح، وهو وسيلة إلى فعلٍ محرم«. »الفتاوى الكبرى، .«172/6

وأنوه على أمر مهم حتى لا تختلط الأمور ببعضها، وقد اختلطت من قبل على بعض الفقهاء والوعاظ، وهذا الأمر هو أن ثمة فرقا واضحا بين نظرية سد الذرائع، وبين القاعدة الفقهية: »الوسائل لها أحكام المقاصد«، فالذرائع التي يمنعها أو يسد بابها بعض الفقهاء لها أحكام مستقلة وليست من جنس المقاصد، ولكنها منعت أو حرمت خشية أن تكون مفضية إلى محرم، أما الوسائل في القاعدة الفقهية فهي من جنس المقاصد غالبا، قد تباح في حال استقلالها، ولكنها في الغالب محرمة، يقول القرافي -رحمه الله- في »الفروق، 33/2«: »... إلا أن هذا ليس على إطلاقه فقد تخالف الوسيلة حكم المقصد إذا تضمنت مصلحة راجحة على مفسدة المقصد، كفداء أسارى المسلمين بدفع مال إلى الكفار مع كونه محرما عليهم .«

الذرائع التي يمنعها أو يسد بابها بعض الفقهاء، لها أحكام مستقلة وليست من جنس المقاصد، ولكنها مُنعت أو حُرمت خشية أن تكون مفضية إلى محرم، أما الوسائل في القاعدة الفقهية فهي من جنس المقاصد غالبا

وعقد ابن حزم -رحمه الله- في كتابه »الإحكام في أصول الإحكام، 795/6« بابا في إبطال الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه، فقال: »كـل من حكم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره، أو بشيء خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل، وهو حكم بالهوى وتجنب للحق، نعوذ بالله مـن كـل مذهب أدى إلى هذا، مع أن هذا المذهب في ذاته متخاذل متفاسد متناقض؛ لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد، وإذا حرم شيئا حلالا خوف تذرع إلى حرام، فلْيُخص الرجال خوف أن يزنوا، وليُقتل الناس خوف أن يكفروا، وليقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر، وبالجملة فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الحقائق كلها.«

وعلى كلٍّ، فالمشهور من مذهب أبي حنيفة والشافعي؛ منع الأخذ بقاعدة سد الذرائع، ومع ذلك يجد الباحث في هذه المسألة أن كتب الحنفية والشافعية لا تتعرض لهذه المسألة ولا تشير إليها من قريب أو بعيد، يقول الباجي »إحكام الفصول في أحكام الأصول ‪567/«: 2‬»ذهب مالك -رحمه الله- إلى المنع من الذرائع...، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز المنع من الذرائع .«

ورأيهم في ذلك معتمد على أن الأدلة قد حُصرت في حديث معاذ -رضي الله- في قصة بعثه إلى اليمن وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع المبني عليهما، والاجتهاد، ولا يصح من الاجتهاد إلا القياس الذي يتضمن المصلحة، وهو مُقاس على ما ثبت بالأصول الثلاثة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، أما سد الذرائع فلم يكن مع تلك الأدلة، فلا يحتج به.

فالمباح عندهم باقٍ على إباحته بحكم الشرع، وإذا منع فيجب أن يكون المنع بدليل صحيح سالم من النقد والاعتراض، ويبقى القول بسد الذرائع من القول بالدين بالرأي بلا برهان، وهذا غالبا ما يورد المكلف المشقة والعنت، وتضييق دائرة الحلال والمباح على الناس فيه عنت كبير.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia