Al-Watan (Saudi)

فلسفة قانونية سعودية

- أصيل الجعيد

المتأمل في تاريخنا السعودي القانوني الحديث، لا يجد فلسفة قانونية واضحة، أو بالأحرى نتاجا قانونيا بحثيا يؤدي إلى خلق مدرستنا القانونية الخاصة، وحاليا نتلمس طريقنا خلال المدرسة الفرنسية، ونأخذ بعض أفكار المدرسة الأنجلوسكس­ونية.

هذا الوضع غير مريب، إذا ما عرفنا المفاهيم الخاطئة المنتشرة المتجذرة عن تخصص القانون، فما زال بعضهم يظن القانون صنيعة غربية قد تغير مجتمعنا الإسلامي القويم، ولا يعلمون أن القانون نتاج تراكمي لتطور إنساني أخذ ملايين السنين للتبلور بالصورة الحالية، وهو انعكاس لحضارة المجتمع واحتياجاته التنظيمية، فأينما وُجد الإنسان ضمن دولة ذات حضارة وُجد القانون الذي ينظم سلوك البشر.

من هذه المفاهيم الخاطئة أننا نستطيع تطبيق الشريعة الإسلامية كقانون بشكل مباشر، وهذا خطأ يتضح عند أول اختبار، فلا توجد دولة في العالم تعمل الشريعة الإسلامية مباشرة كقانون، ووجود الشريعة الإسلامية كمرجعية في السعودية لا يعني أن نهمل القانون كعلم مستقل وأداة تنظيمية.

لذا، فالشريعة مرجعية، ومن صلاحها لكل زمان ومكان، أنها ليست جامدة ففيها جوانب كثيرة قابلة للتطور، وتقبل الاختلاف من باب أنتم أعلم بأمور دنياكم، لذلك فمن يصوغ القانون ينظر أولا للإطار الشرعي، لأن ذلك ما نص عليه قانون الحكم الأساسي السعودي في المادة الأولى، دستورها كتاب الله وسنة رسوله، وفيما لا يخالف الشريعة يعمد صائغ القانون إلى مبادئ القانون وما توصلت إليه آخر الدراسات لتشريع الجوانب المختلفة »التجاري، الجنائي، المدني« للتنظيم.

من المفاهيم الخاطئة كذلك مصطلح القانون الوضعي الذي يضعه الإنسان لتنظيم شؤون حياته، ويقول بعض الغلاة بتحريمه تماما حتى فيما لا يخالف الشريعة الإسلامية!

منذ بدأ الرسول الكريم رسالته فهو ابن بيئته، واتخذ بعض القرارات التنظيمية التي تعد شكلا من أشكال القانون الوضعي، فقرار ذهاب بعض النساء إلى المعارك لتطبيب المجاهدين هو قرار تنظيمي وضعي، غير مستمد من الشريعة مباشرة، بل مستمد من الاحتياج التنظيمي الذي فرضته تلك الظروف، وعلى ذلك فهناك شواهد عدة في تاريخنا تدل على ذلك.

فعُمر تبنى قانونا وضعيا فارسيا للدواوين، عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يعلم تماما أن لا حضارة تبدأ من الصفر، فهي تأخذ نتاج غيرها التراكمي، وتطور منه ما يناسبها، لذلك فهناك دروس كثيرة في تاريخنا تدل على أهمية القانون الوضعي، وكذلك ففي عهد عمر كبرت الدولة وكبرت معها الاحتياجات التنظيمية لجموع كبيرة من البشر، لهذا فلا نستطيع تنظيم البشر بكثرة المواعظ بل بالقانون!

من المفاهيم الخاطئة كذلك، استخدام كلمة نظام بدل قانون، ورغم أن هناك قاعدة شرعية تقول لا مشاحة في الاصطلاح، يبقى هناك جدل سطحي حول كلمة قانون، لكن الراسخين في العلم يعلمون أن من يكره القانون والتقنين يحبون الفوضى، لهذا أتمنى أن يأتي يوم نستخدم فيه كلمة القانون أكثر بدل كلمة نظام. أيضا من المفاهيم الخاطئة عن التقنين، وهو التدوين، أن تدوين الثوابت الشرعية لنقل وضع قانون يضع الحدود الشرعية في إطار قانوني، على شكل أنظمة ولوائح، يؤدي إلى أن المشرع السعودي، ممثلا في مجلس الوزراء أو الشورى، قد يغيرون هذه الحدود الشرعية!

هذه مخاوف بين الشرعيين غير مفهومة، فبكل بساطة مرجعيتنا الأولى في السعودية الشريعة الإسلامية، ووضع قانون يؤطر الحدود الشرعية الثابتة لا يعني أن المشرع السعودي قد يغير هذه الثوابت، بل قد ينص على عدم تغييرها ما عدا ما كان ربما محل خلاف بين الشرعيين أنفسهم، وعندئذ في المصلحة العامة أولى وأجدر لاختيار رأي يناسب هذا الزمن واحتياجاته، توضيح هذه المفاهيم الخاطئة هي ما أحاوله الآن مع طلابي في مادة مبادئ القانون، في معهد الإدارة العامة، والتي أصبحت فيها الحصة حلقة نقاش شرعية قانونية لا تهدأ، بحثا عن الحقيقة وتوضيحا للمفاهيم، لجيل أتمنى أن يقود المشهد القانوني السعودي نحو برّ الأمان.

وأما الفلسفة القانونية السعودية التي ذكرت في بداية المقال ستتضح متى ما تمت تجلية هذه المفاهيم الخاطئة، وبدأ الباحثون بنفض غبار الكسل عنهم، وبدؤوا -بلا استحياء في العلم- بطرح آرائهم وأفكارهم، فسيؤدي ذلك إلى نشوء فلسفتنا الخاصة، والتي قد تؤدي لاحقا إلى مدرسة قانونية سعودية، نباهي بها أمام مدارس العالم القانونية الأخرى.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia