Al-Watan (Saudi)

الحياد في السياسة والحياد في الأدب

-

سياسيا، توجد دول »محايدة«. دول غير منحازة. لا تميل إلى الشرق الاشتراكي الذي كان، ولا إلى الغرب الرأسمالي الفرح والشامت بما آل إليه مصير المعسكر المنافس له.

دولٌ تريد أن تعيش في سلام، وأن تحافظ على استقلالها وحريتها وإرادتها وقرارها أمام القوى الكبرى المهيمنة، دون أن تكون خاضعة لنفوذ هذا المعسكر أو ذاك.

ولقد بدأت فكرة »الحياد« أو »عدم الانحياز« من جزيرة »باندونج« ومؤتمرها الأشهر »في أبريل عام 1955«، والذي دعا إلى »تضامن« و»تعاون« شعوب العالم الثالث في آسيا وإفريقيا، بهدف تعزيز نضالها للتحرر والاستقلال وتصفية الاستعمار، والذي افتتحه »رابع« نجوم الحركة: الرئيس الإندونيسي السابق أحمد سوكارنو، بكلمة مؤثرة جليلة استهلها قائلا: »باسم الأمم الصامتة والمقهورة.. نتكلم«، وتكلم وتكلم الآخرون، ثم تطورت الفكرة عبر مؤتمرات »بلجراد« عام 1961، و»القاهرة« عام 1964، فـ»بريوني« عام 1965، لتتخلق وتتجسد فكرة »عدم الانحياز« وكتلته التي أصبحت لها آليتها وزخمها وجذبها وقوتها الفاعلة المؤثرة، وإن اختلف زعماؤها حول تحديد ماهيتها: ففيلسوفها الآسيوي، وأول من أطلق تعبير »عدم الانحياز« في أواخر الأربعينات، ظل يقول إنها حركة »عدم انحياز« لأي من المعسكرين والكتلتين المتصارعتي­ن.

و»نجمها« الإفريقي الصاعد في ذلك الوقت أخذ بتطويرها إلى أنها »الحياد الإيجابي« الفاعل بين الكتلتين. وخبيرها الأوروبي الشرقي المتمرس ظل يقول إنها »تعايش سلمي« بين الدول ذات النظم السياسية والاجتماعي­ة المختلفة على أساس من عدم الانحياز.

ومع السبعينات، انطوت الحركة وانطفأت بموت رموزها، أو بسلسلة الانقلابات التي تعرض لها قادتها، ولم يبق منها غير هذه الظلال التي ما زالت تتحرك في أروقة الأمم المتحدة بمشاريعها »الوسطية« في معظم الأزمات.

على أية حال، وأيّا كان الخلاف أو الاختلاف حول حقيقة »الحياد« أو ميتافيزيقي­ته، فإنه يبقى مفهوما في السياسة، ومبررا، وقد يكون معقولا، ولكنه لم يكن ولن يكون كذلك في »الأدب«.

فـ»الأديب« لا يتعامل في العادة »مع فن الممكن«، ولكنه يتعامل مع »فن المستحيل«، والرؤى والأحلام والمواقف واستشراف المستقبل، متخندقا بـ»يراعه« في خدمة الحق والعدل والحرية والخير والجمال.

أداته الكلمة، ودافعها الأول والأهم هو الألم العظيم، وهدفها »محاربته« كما يقول أحد الأدباء، ولا تتسق هذه الدوافع والأهداف مع الحياد ومعناه.

فالأديب صاحب رسالة، وليس ساعي بريد في الأدنى يحمل رسائل لا علاقة له بمحتواها، ولا محاميا في الأعلى يقبل الترافع في القضايا التي له علاقة بها والتي لا علاقة له بها غير »الأتعاب«، ولا منشدا في فرقة »كورال« يردد ما يقوله الآخرون ويصمت مع صمتهم.

الحياد في الأدب، إنما يعني أن يكون الأديب »مائيا« بلا طعم ولا رائحة، رماديا بلا لون، خاويا بلا فكر ورأي ورؤية وموقف.

لقد كان صادقا ذلك الناقد الذي قال عن أحد الأدباء: »كان أديبا فاشلا. كان أديبا محايدا«. إن الأديب »المحايد« يشبه الحيوانات الأسطورية والخرافية المنقرضة، والتي يتكلم عنها الناس ويتناقلون أخبارها، ولكنهم لا يجدونها في »واقعهم«. لا يرونها في حياتهم.

ولست أدري ولست أعرف كيف يكون الأديب محايدا أمام الظلم، أمام القهر، أمام الاستبداد والبطش؟

إن التاريخ الأدبي -على امتدادهلا يعرف أديبا حقيقيا »محايدا«، ولكنه عرف كل الأدباء المرتزقة الذين يُلبِسون لكل حالة »لبوسها«.

فأديب العربية الكبير »عباس محمود العقاد« لم يكن »محايدا« لا على المستوى الشخصي، ولا على المستوى الأدبي، ولا على المستوى السياسي.

فقد كان ضد »الرافعي« و»شوقي«، وكان يقول عن صنوه اللدود »عميد« الأدب العربي طه حسين أنه »عمي الأدب« وليس »عميد الأدب«، وعلى المستوى الأدبي كان صرخة امتدت إلى خمسة وسبعين عاما من أجل الحرية، وإن اختلف معه الآخرون، وأنا منهم.

وعلى المستوى السياسي، كان »سَعْدِيّا وَفْدِيّا« منذ البداية ثم انقلب وأصبح »نُقرَاشِيا سعديا«، ومع ذلك فقد كان أول ما فعله عندما خرج من السجن أن ذهب إلى ضريح سعد، وقال قصيدته الرائعة:

وكنت جنين السجن تسعة أشهر

فها أنذا في ساحة الخلد أولد

ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا

وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد وما أفقدتني ظلمة السجن عزمة فما كل ليل حين يغشاك مرقد عداتي وصحبي لا اختلاف عليهم سيعهدني كل كما كان يعهد لقد جدد عهده بـ»عدم« الحياد، وبالتأكيد لم يكن يهبط أو يحط من قدره استرجاع »مكرم عبيد« لتاريخه السياسي مع »الوفد«، وانتهائه إلى القول إن العقاد إنما كانت »تهمه بطنه.. وليس وطنه«.

ورائدنا الأدبي الكبير »العواد«، فرز نفسه منذ البداية وأطلق لها العنان في حربها ضد الجهل والتخلف والاتباع، وكانت بوابته الكبيرة التي دخل منها هي تجديد الأدب وشنّ الحروب على المنافقين والمدجلين والمطبلين، وكان ثقله كله إلى جانب المستقبل: دعوة ونظرة، وكانت سطوره تيارا عاصفا نحو تلك الآمال والأماني.

لا حياد في الأدب. فلم »يكن« »طه حسين« محايدا في روايته »المعذبون في الأرض«، ولم يكن »هيمنجواي« محايدا في »لمن تقرع الأجراس«، ولم يكن »سارتر« محايدا في »دروب الحرية«، ولم يكن »الحكيم« محايدا في »عودة الروح«.

حتى شاعرنا العظيم والمتعالي على كل قيم الخلود الدنيوية »حمزة شحاتة«، لم يكن في حقيقته محايدا، ولكن تعاليه كان تعبيرا عن ضجره، كان تعبيرا عن بعض أو كل يأسه.

إن حياد الأديب، كـ»ارتزاقه«، كـ»نفاقه«. فـ»الحياد« الذي يمكن أن يكون رابطا تقوم عليه »العلاقات« بين مجموعة من الدول تجاه الدول العظمى، لا يصلح ولا يصح، ولم يحدث أن كان رابطا أو أساسا تقوم عليه العلاقة بين الأديب ومجتمعه. بين الأديب والحياة والأحياء من حوله، فلا حاجة للناس وللحياة في أديب محايد.

والذين يتحدثون عن »الحياد« أو يمارسونه من أدباء العرب في أزمة العدوان على أرض الكويت وشعبه الشقيق والمبتلى، إنما يرمون بأنفسهم طواعية في حلبة الارتزاق، ويهمشون حياتهم وتاريخهم الأدبي بهذا »النفاق«، فلا حياد أمام العدوان والبطش والتسلط، ولا حياد مع قهر الشعوب وإرادتها.

فهل وقع أو يقع هؤلاء في الخلط بين البحث عن مخرج من مخارج السلام للأزمة، وبين المحايدة في شجب العدوان ورفضه؟!

إن السلام وطلبه أو البحث عنه في ظلمة هذه الأزمة، شيءٌ، ومجابهة العدوان والتصدي له شيءٌ آخر. استنكاره، ومطلب إزالته، والدعوة إلى ذلك، شيء آخر.

فـ»الحياد« ليس اختيارا في حياة الأديب الحق، ولكنه قد يكون اضطرارا لا يجد منه مخرجا أو مفرا، إذا حاصرته الظروف من حوله.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia