Al-Watan (Saudi)

مُثُل تعود بعد الغربة

-

ما كانت الفوارق المبينة لحقيقة الإنسان تتميز إلا في تعقله ومثله المتعارف عليها منذ أصله الأول، في روحه، في حرصه على القواعد الملازمة لطبيعته الإنسانية، وإذا كانت تلك طبيعته فمفارقته لها هو الاستثناء، هو الشذوذ والخروج عن القواعد.. المثل هي طبيعته.. هي تاريخه الأزلي، هي بداية انفصاله عن مجموعته العاقلة حين يفارقها، هي خصيصة من خصائصه، وكأنه التلازم الطبيعي المنغرس في ذاته، في كيانه.. في وجوده أصلا.. هذا الإنسان وهو في ديمومة التصارع العنيف العجيب مع حياته، مع نفسه، مع غيره من الكائنات، كان وسيظل يتصارع ويعنف مع المثل يلتزم بها كشيء من ذاته وحقيقته، ويتجافى معها كنزوة من نزواته، يتباعد منها كتفلت من سلوكه العاقل، وينأى عنها كغريب رفض الإقامة في مكان، ورحل إلى آخر يتوقع أنه يبتغي فيه الهدأة.. يبتغي فيه عالما آخر يغير فيه من حياته المكرورة وقواعده الثابتة، ولكنه يمثل -وإن لم يشعر- دور طائش مائج عن حقيقته الأساسية، وتقلب هذا الإنسان عبر أدواره الحيوية في قوالب مختلفة ومتنافرة مع السلوك العاقل المفترض فيه. وإذا قلنا »المفترض« فإن ذلك هو الحقيقة.. الملائكة قالوا للرب العظيم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟) فقال لهم الرب: (إني أعلم ما لا تعلمون). فنظرة الله -وهو أعلم العالمين- إلى الإنسان أرحم وأحكم، لأنه وإن شذ بعضه فسيظل حاملا للأمانة في الكون الأرضي، وسيظل من بين المخلوقات في هذا الكون هو العاقل في سلوكه. أفلاطون يوم أسس مثاليته كان يفترض تلاؤمها مع الإنسان تلازما والتزاما، وما كانت دعوات الرسل المتعاقبة عبر أطوار تاريخية معينة إلا قوالب مثالية تبين للإنسان مكانه في الحياة.. وهذا المكان ليس إلا نهجا مؤسسا على القيم، ومرتكزا على المثل.. لم تكن هذه الدعوة إلا عودة لحقيقته، وليست تلائم بعضه زمانا ومكانا ولا تلائم ذلك الآخر.. هي مفترضة في الإنسان -أي إنسان- زمانا ومكانا فهو حين يحبها، حين يعود إليها يحن إلى حقيقته..

يعود إلى مكانه.. يعشق هدأته واستقراره، وحين ينفر منها يكون في الغربة، ينفرط من سلكة الأصيل، وينخدع بتجديد مكانه، ولكنه مع ذلك يظل في الحقيقة مساندا.. إقامته محدودة، ومسلكه متقلب، وحياته مترجحة يتأفف من كل شيء وإن استطابه، فهو حبيس همومه وآلام غربته المتأججة في نفسه.. إنه غريب يظل يبحث في غربته عن مكانه الأول.. يستذكر خطواته اللاتي نقلنه إلى الغربة، يحلم بالعودة.. يجتر ذكرياته وكأنه يعيشها حزينة خانقة تضغط على قلبه وتلبد مشاعره وأحاسيسه، وتمر الأيام، ويعود الغريب إلى حقيقته، مكانه، سلوكه المألف حياته المعهودة.. إنه لا عجب في ذلك فهو حين يبعد عن دائرته لا يخرق كثيرا النواميس الطبيعية للأشياء التي يقبل كثيرا منها بالتناقض والتضاد كمسلمات بدهية، فإذا كان الارتخاء والانصهار يقابله التجمد، والارتكاز يقابله الترجح، فإن السلوك العاقل يماثله سلوك غير عاقل، يفعله بعض الإنسان نتيجة اختلاف البيئة وتغير السلوك العام ونتيجة مؤثرات جانبية أخرى، هي أقرب ما تكون إلى الفاعل المفروض. وما دامت الأشياء في كثير منها في هذا الكون تخضع لمقاييس متضادة هي أساس فيه وحقيقة من حقائقه، فالإنسان حين يتفلت من هذه المثل يخضع لهذه المقاييس المتضادة، وما إخال العلة في ذلك إلا ليجرب هذه المقاييس، ليزداد تعمقه وتعلقه بالأفضل منها في النهاية انطلاقا من مسلمة عقلية مفادها: »أن الضوابط السلوكية العاقلة تكون أكثر قوة ومتانة إذا تولدت بعد ضوابط سلوكية. إن غربة المثل تمثل هذا الانعطاف في السلوك غير العاقل، أوجدتها عوامل كثيرة جاءت بها هذه الحضارة القلقة.. لقد سيطر القلق على هذا الإنسان في تصرفاته.. في توجساته، فانصعق بهذه الآلام الثقيلة، وصار الشذوذ في سلوكه ظاهرة ملازمة له، ابتعد منها إرواء لظمأ في نفسه أو علاجا لآلامه المتولدة عن قلقه، ولكنه وجد -وإن لم يكن كله قد وجد- أن في هذه الغربة تعميقا للقلق، وبعدا عن الاطمئنان الحقيقي لسلوكه، إن الغربة تعنى البعد عن المقر الحقيقي للغريب، وإن تعددت فيها الملذات وتنوعت المباهج فليست إلا ظاهرة غير طبيعية، ما يلبث فيها الغريب حتى يعود إلى مقره الطبيعي المرتسمة صورته في ذهنه منذ صغره حتى صار جزءا من أجزائه، وخلية من خلاياه، لا يهدأ إلا برؤيته، ولا ينعم إلا فيه، ليعود في النهاية وقد ألقى عصا الغربة القلقة في بحر العزوف.. إن المثل قد تعود بعد غربها العنيفة ليعود للإنسان روعه الهادئ ورئتاه المتنفستان ونظرته المستقرة.. حزام العفاف أحد تقاليد القرون الوسطى ينتشر في أميركا وأوروبا بشكل هائل.. الشركة التي تصنع هذه الأحزمة تلقت طلبات بزيادة كمية الإنتاج.. إنه برهنة من المرأة للرج، فيه معايير الثقة، وعلا فيه صوت الذئاب المفترسة، وتماوجت فيه الكلمة بين الصدق والكذب.. وعلى أي حال فإن الأيام القادمة للإنسان ستثبت أنه سيعود من غربة المثل ليستقر على حقيقته.. ليلتزم بمثله الطبيعة، بنفس القوة والتصميم اللذين حقق بهما التجول في الفضاء وبسط جناحيه على القمر.

(أحاديث وقضايا إنسانية 1403- (1983

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia