Al-Watan (Saudi)

الفكر الذي يباع في المزاد

-

من يصدق أن الفكر يباع كما تباع الأشياء التالفة في الأسواق؟

بل من يصدق أنه يباع بأقل الأثمان، كما هو الحال في سقط المتاع الذي هان على أهله؟. سماسرة البيع كثيرون، والباعة أكثر، والمبتاعون ينتقون ما وسعهم الانتقاء. وقلة هم الذين لا يبيعون إلا على القراء الخلص، وهؤلاء من حيث الثمن المادي لفكرهم أتعس الناس ربحا، وما حيلتهم إذا كان المبتاع -القارئكاسد القراءة، قليل الأخذ، لا يهوى من الفكر إلا ما كان برّاقا لمّاعا، تستهويه صورته، ويبهره شكله ومظهره، وكثرة هم الذين يبيعون غثاءهم الفكري، إن لم يجروا وراء ماء الحياة فهو يجري وراءهم يطلبهم، يلاحقهم، ليس بضنين ولا شحيح، بل معطاء مدرار. ولا يعنينا الممول، ففعله قد يكون فيه له ضرورة يطلب به، يمنع به. يتقصد به شيئا لا يدركه إلا به يتفيأ شيئا، ويلتمس مطلبا، وإذا كان المصب الذي يفرغ فيه هذا الفكر يعنينا، ولو بقدر معين، فينبغي أن نعرف أنه قد يكون في قابليته على نوعين: إما نوع قاصر، وهنا سيكون سيئ الاستيعاب، أو نوع لا يبالي بحيث لا يعلل ما قيل له ولا يتعلل برفض ما يضره في الوقت الذي يستطيعه، فهنا زاوية الخطورة.

والفرق بين النوعين، أن الأول هو الجاهل بالعلم لا يدركه، والثاني هو المتخاذل عن الرفض يعرفه فيتغافل عنه، فعُذر الأول واضح وإن كان على غير إطلاق، ولا عذر للثاني إلا انهزام النفس أمام رهبة الغزاة. فمن يا ترى المسؤول الملوم؟ إنه الفكر مرتبط برجاله، فهم ليسوا أهل غفلة فينبهون، ولا أهل جهالة فيعذرون. وهم إن تعاموا عن الحقيقة المجردة، وتغافلوا عن الكلمة المخلصة، صاروا من وصف الذين ضلوا فأضلوا، وفي ذلك بداية النهاية لهم أنفسهم.

إنهم بمثابة حملة المشاعل الزيتية، إن أحسنوا حملها صار الطريق مضاءً وسالكا، وإن كانوا غير ذلك سقطت من أيديهم فاحترقت وأحرقت.

إنهم الموجهون، يقولون فيصدّقون -بالتشديد- ويأمرون فيُطاعون، فحين يخلصون يعمر كون وتبنى أمم وترقى، وحين يضلون تهدم ديار وتدك حصون. وناهيك بها مسؤولية ألا تؤدى على وجهها، وأعيذك من حامل لها لا يقدرها حق قدرها. ومدار التساؤل أنه إذا كان المفكر بهذه المسؤولية والمكانة فما قوامه وعماده؟ هل هو القول الممنطق؟ أم هو الحديث البارع ينمق فيشغف النفوس ببريقه، ويستحوذ على الألباب بسحره، أم هو الأسلوب المرن يتمدد وينكمش تبعا للأحوال والظروف، أم ماذا؟

قلت إنه لا ذا ولا ذاك، إنه »القول المخلص الأمين«، يسجل التاريخَ كما هو واقعا محسوسا، أو ماضيا مشهودا. هو الكلمة الموجهة الهادئة الهادفة، تخلب اللب لا لجمالها بل لعظمتها وصدقها. هو النتاج الصافي يبدعه العقل الراشد الثابت وما أخال ذلك الفكر إلا عاملا فاعلا، به تبنى الحضارات، وتشاد الأمم وتطلب به الانتصارات، وما عداه كغثاء السيل، يبقى كنفاية تافهة. وللحديث شاهد ودلالة عابرة تلقى بهذه المناسبة في معنى الذكرى.

فمرة جمعتنا ندوة في أحد منتديات بيروت، تعرفنا فيها على رجل كان يسمي نفسه »المفكر«. كتب صحفا وألّف كتبا، وصال وجال في ميادين الفكر، علّها الفترة السابقة لمأساة حزيران، وسميتها بـ»فترة التمدد الفكري الشاطح«. وكانت ندوتنا مترعة بأحاديث المفكر العربي، يحلل ويستنتج، يتخيل ويتوقع، يصنف ذلك البلد العربي مغوارا بطلا، وذاك جبانا رعديدا، وللسفن الفضائية والصواريخ الموجهة مكانة في الحديث، وكان في المنتدى فضلاء لم يكونوا إلا أدباء نفس، وأصحاب عفة عن اللغو، وإن كانوا معه على خلاف تمالكوا أنفسهم وسكتوا على مضض، ومرت الأيام تترى، وسقطت أقنعة الفكر الشاطح. وتقصدوا أن يروا هذا الذي كان له في هزيمة فكرنا أثر كبير، لم يكن ذلك للشماتة أو للتطاول عليه، ولكن لتذكره بسوء صنعه، وليقولوا له: لقد كنت مدخولا في فكرك، وغير سليم في منطقك. وها نحن وأنت نقطف ثمار عبث أمثالك ممن أماتوا في الفكر العربي جذوة الحقيقة، وسلامة الغاية، ولكنه أدرك ذلك في نظراتهم فقال: بالحرف الواحد »حقا لقد أسهمت أنا وأمثالي في الهزيمة، ألا تعتقدون أن من أهم إثبات الجريمة الاعتراف بها. وحسبي أن تقولوا شيئا يبعث المرارة ويوجد الخصومة واللجاجة.« قلت »ما أكثر ما قيل لأولئك: اتقوا الله في أمتكم، اكتبوا لها الحقيقة كما هي، تعودوا على الصدق وعفاف الكلمة، قولوا الحقيقة، وإن كانت مرة قاسية، ألبسوا القول لباس الطهر والإيمان، فالدعاوى الكاذبة ما كانت في يوم من الأيام إلا وسيلة الضلالة وبداية النهاية. (أحاديث وقضايا إنسانية (1983-1403

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia