Al-Watan (Saudi)

ماذا يريد أمير الشعراء

-

مرة أخرى يعود الجدل مع ابن زحلة وكاتب لبنان، ومن سمى نفسه أمير الشعراء سعيد عقل حول اللغة العربية، أو بمعنى أصح حول دعوته إلى طرح الحرف العربي واعتناق اللاتينية، باعتباره المدخل للتطور الفكري والانعتاق من التخلف كما يتصوره عقل بدافع غير شريف، هذا الجدل سبق أن بدأ به منذ زمن طويل كتاب في مصر ولبنان، وانتهى إلى نتيجة يعرفها سعيد عقل جيدا.

لقد انقسم المجادلون لسعيد عقل إلى فريقين: فريق وصف صاحب الدعوة بما وصفه به من نعوت متعددة بدافع الذود عن كرامة اللغة العربية التي يرتبط بها العربي ارتباطه بكيانه وتكوينه، وفريق جادل عقلا، برباطة جأش وسعة أفق ومنطق علمي ابتغى من ورائه إقناع الكاتب بطريقة علمية، مؤكدا له أن ذلك الدرب الذي سلكه شاق وعسير، ويستحيل بلوغه، وحاول أن يتبين له من خلال الإقناع العلمي خطأ دعوته، وخطل رأيه وضعف مبناه شكلا وموضوعا.

قلت: إن سعيد عقل لن يقتنع بهذا أو ذاك من الرأي مهما كانت قوته وتأثيره، وما ذاك إلا لأن الدافع غير شريف، فنظرة دقيقة إلى السلوك النفسي لذلك الرجل ومثله من أصحاب تلك الدعوات المشابهة توجب تصنيفهم إلى صنفين: صنف يتخيل صواب فكرته بدافع يعتقده باطنا وظاهرا، بغض النظر عن نظرة الناس إليه، وهذا قد تفرض عليه طبيعة تفكيره قبول الحجة التي قد تزيل الفكرة الخاطئة من ذهنه والرجوع إلى الرأي الأصوب، وهذا حسن النية فيه مفترض.

وصنف آخر يدعو إلى فكرة معينة بدافع يتجلى من ورائه سوء المقصد وفساد الطوية، هذا النوع من الفكر لا يمكن خضوعه لمنطق علمي مهما كانت قوته وتأثيره، وسعيد عقل قد كان من ذلك النوع، ولعلي بأولئك الذين حاولوا جاهدين إقناع الرجل بالمنطق العلمي يعرفون جيدا حقيقة موقفه من الجنس العربي كجنس، ناهيك عن موقفه من معطيات ذلك الجنس الحضارية والفكرية، فالرجل الذي كان يفخر بأنه لم يكتب قط في حياته كلمة -عربي- هو بالتأكيد حاقد على هذا الجنس، ولو كان ينتمي إليه شكلا، وهو بالتالي سيكون سيئ النية في نظرته إلى تراثه الحضاري والثقافي القديم منه والجديد، من أجل هذا يمكن القول بأنه لم يرد من محاولته تلك إشباع رغبة علمية مجردة، أو كان متأثرا بدافع إصلاحي نبي، ودعوته كأي دعوة أخرى دعوة لنشاز مكتوب لها الموت الأبدي.

ولقد سبق لفهمي باشا في مصر وللأب غصن في لبنان أن بشرا بمثل تلك الدعوة، كما سبق لعقل أن ألقى نفسه في التهيئة النفسية لتلك الدعوة وتعميق مفهومها بكل الممكنات المادية في كتابات أتباعه وكتاباته التي سلخ عنها فصاحة اللغة، فانسلخ عنها جمال التعبير وقوة التركيب، وبارزة أيضا في جائزته المادية السنوية التي تعطي للأتباع حينا ولغيرهم حينا آخر من أجل إخفاء الصفة الحقيقية لها، وكانت النتيجة لتلك التهيئة الفشل المريع. قلت إن تكراره لتلك المحاولة مرده إلى سببين: إما أن يكون قد اعتقد -خطأ- أن الجو العربي الحاضر مناخ ملائم للتبشير بالدعوة الجديدة، لعلها تظفر ولو بأقل نسبة من النجاح مهما كانت ضآلتها.. وإما لأنه نسج على منوال ذلك الرجل الذي أراد أن يبول في زمزم ليذكره التاريخ على صفحاته ولو جاء ذكره باحتقاره وازدرائه. ولست أدري هل سعيد عقل يتصور أن التاريخ العربي لن يذكره إلا من هذه الزاوية المظلمة، أم ماذا يريده من أمة تعتز بلغتها بنفس اعتزازها بجنسها وماضيها الخالد؟ وليت سعيد عقل يعرف أو يستذكر أن هذه اللغة إبان العصور المظلمة التي مرت بها الحضارة العربية وفي وقت كانت المجامع الأجنبية قد أوصت المتنفذين فيها بوضع مخطط مرحلي لغزو العرب من زاوية تهديم معطياتهم الحضارية، لم تعدم هذه اللغة من يحافظ عليها كما يحافظ على بقائه. وأظن سعيد عقل لو رجع إلى معلوماته التاريخية لوجد أن الأديرة في جبل لبنان الأشم كانت معقلا من معاقل الحفاظ على العربية الفصحى، ولعله يذكر بجانب ذلك أن الرهبان الذين ينتمي إلى معتقدهم الديني كانوا يرددون كثيرا من شعائرهم الروحية بها.

وليت سعيد عقل يتذكر أن الشعب الجزائري -كمثال للشعب العربي في الشمال الإفريقي- ظل تحت الحكم الأجنبي مائة وثلاثين عاما، كلها تكريس لطمس التراث الفكري في الجزائر، ورغم ذلك كان ذكر اللغة العربية وآدابها دافعا مشوقا له إلى البذل والفداء من أجل التحرر.

ومرة كان أحد الشعراء الجزائريين يقف على منصة للخطابة في مدينة دمشق، ولما رأى الجماهير قد التفت به اغرورقت عيناه بالدمع ثم أجهش بالبكاء وأحجم عن إلقاء قصيدته الشعرية، وحين سئل عن سبب بكائه قال: »بكيت لأني لا أجيد العربية الفصحى كما أريد أن تكون إجادتي لها«، هذا واحد من أبناء الجزائر ولد في ظل حكم أجنبي وعاصره سياسة واقتصادا وثقافة وحضارة، وأجبر ولو نفيا على هجر لغته وتراثه الفكري، ومع ذلك ظل يعرف لغته جيدا، ولكنه يريد أن يكون فيها عملاقا. هذان مثالان بسيطان لا أظن أن ابن زحلة وكاتب لبنان يجهلهما، ولكنه رغم ذلك ظل مكابرا، على غرار من قال: »نبي وإن ضافت شيوخ ورهبان«، سؤال يترك الجواب عليه لواحد من أصحاب الفكرة القديمة والحديثة، ويقيني أنه سيعرف في النهاية أن تلك المحاولة ستظل دائما في سجل نفايات الفكر الرخيص. (أحاديث وقضايا إنسانية

(1983-1403

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia