Al-Watan (Saudi)

هموم علمية 2

-

قال أبو عبدالرحمن: هذا هو تعاملي مع علماء المسلمين، من ابن حزم إلى ابن تيمية، ومع من خلفهما، جيلا بعد جيل.

ألا ترى أنه يقشعرّ جلدي من جعل ابن حزم أسماء الله أسماء أعلام لا يدل كل اسم على الصفة الخاصة؟ ألا ترى أنني أكع عن أخطائه في التطبيق عندما يقول مثلا: إذن البكر صماتها، ولو نطقت ما كان كلامها إذنا؟.

قال أبو عبدالرحمن: والله خلق العلماء مختلفي المواهب والسلوك، ولم يجعل لهم العلم المطلق لكل العلوم.

بل جعل منهم العالم المبرّز في علم أو علمين أو ثلاثة أو أربعة أو سبعة.

وجعل فيهم ذا التخصصات المتعددة مع علم مجمل بفنون كثيرة، ولا يكون هذا العلم المجمل مميزا لهم عند ذوي التخصص، وإنما يكون علمهم المجمل مفيدا لهم في علمهم التخصصي، إذ يتكون لهم من علمهم المجمل علم علاقات يربطون بها أو يفرقون بين علومهم التخصصية التفصيلية.

وطالبُ علم مثلي، عندما يرجح قول إمام على قول إمام، لا يدّعي أن عنده من العلم والموهبة فوق ما عند علم وموهبة إمام رد قوله؟.

كيف يكون هذا، وعن كتبهم أخذنا، وعلى علمهم ومواهبهم تعلمنا. وإنما مرد الاختيار والترجيح إلى ثلاثة أمور: أولها: أخذ العلم عن أهله، فمن كان إماما في الفقه والعقيدة والجدل ليس ضروريا أن يكون ذا علم تخصصي في اللغة، بل قد يكون علمه بها إجماليا، ويكون في أهل اللغة وأئمتهم من هو أعلم منه.

فإذا خالف في مسألة لغوية فلا يُسلّم له، بل تحاكم أقواله إلى علم أهل العلم التخصصي.

وقد يوجد إمام من تخصصاته التحديث، ولكن يثبت بالمعاينة الحسية أن خبرته بصحيح البخاري ومقاصده ليس كعلم وخبرة ابن حجر العسقلاني، وهكذا وهكذا.

وثانيها: أن الله ميّز كل فرد بمواهبه، بين حاد الذكاء إلى متوسطه إلى بليده، وقد يكون بليد الذهن في شيء حاد الذهن في شيء آخر، حسب اهتمامه.

وتظهر الموهبة ودعوى حدة الذكاء عندما يظهر الفارق غير المؤثر من كلام غيره، أو يظهر من كلام غيره إلغاؤه الفارق المؤثر. وأضف إلى ذلك الكشف عن أي أغلوطة.

وحينئذ، لا يلغي المسلم موهبته ويتتلمذ لكل ما قيل.

وثالثها: أن لطالب العلم تأصيلا أقامه ببحثه، اجتهادا أو اتباعا بترجيح، فلا يقبل من تفريعات العلماء ما خالف التأصيلات التي يشترك معهم في القول بها، ولا يقبل من تفريعات بعضهم ما يخالف التأصيل الذي ارتضاه هو اجتهادا أو اتباعا بترجيح، حتى يقوم له برهان على فساد تأصيله فيرجع عنه.

ألا ترى أن من الأصول المجمع عليها أن من ليس عنده علم، فحتم عليه أن يتوقف، ويَكِل الأمر إلى عالمه، حتى لا يَقْفُوَ ما ليس له به علم، وقد حرّم عليه ذلك في سورة الإسراء، وحتى لا يرد ما ليس له به علم، وقد حرم عليه ذلك في أكثر من موضع.

فإذا جاءت مسألة غير قطعية، اختلف فيها علماء المسلمين، وتوقف فيها من تكافأت الأدلة عنده. ثم وجدنا من أهل الإمامة والعلم والفضل من يضلل المتوقف ويجهمه، فلا نقبل ذلك، ونرى أن المتوقف أحسن حيث توقف فيما ليس له به علم.

ولا نعدل عن هذا حتى يقوم برهان على أن من ليس عنده علم لا يتوقف، بل يقول بأي شيء، أو أن تلك المسألة قطعية معروفة من الدين بالضرورة، لا تتكافأ حولها احتمالات معتبرة.

قال أبو عبدالرحمن: وحول شيخ الإسلام ابن تيمية أعترف بأنني أصدأ أحيانا كثيرة من جراء الانهماك في علم شعبي، أو أدب فصيح، أو أدب عامي، أو مسامرة أحياء أو أموات بطرائف وظرائف، مما يسميه الأسلاف محاضرات، فأنفض الغبار عن كتاب الاستقامة لابن تيمية، أو عن أحد أجزاء مجموع الفتاوى له، فيحلّق عقلي مع موهبته، وتحلّق روحي في معارفه في الزهديات والأعمال القلبية والسلوكية، ويتوأب قلبي مع بطولاته في الجهاد بالسيف والقلم.

وهذه من مقتضيات المحبة له ولأمثاله، ولا يعني هذا الاتباع المطلق، لأن الاتباع المطلق لا يكون إلا لشرع الله، إذا صح ثبوتا ودلالة.

ومن العلماء من هو ذو تحصيل وموهبة، ولكنه صاحب هوى وغير نزيه الاجتهاد، أو ذو بدعة.

فهذا يتعامل معه المسلم تعامل من يطلب الحق ليتبينه ويعمل به، ويحذر جانب الأهواء في اجتهاده.

فإذا كان ابن جني -مثلا- وشيخه أبوعلي الفارسي معتزليين، فلا يمنعني اعتزالهما من أخذ حججهما وخبرتهما عن إثبات أمر بدهي في أمر من تخصصهما، وهو إثبات المجاز ما داما فردين من جماهير العلماء القائلين بالمجاز من كبار اللغويين والمفكرين.

أما ادّعاء المجاز تطبيقا لنصر بدعة معينة، فليس نتيجة حتمية للأخذ بالمجاز، بل الآخذ بالمجاز تأصيلا لا يلزمه ادّعاء المجاز في مكان معين تطبيقا، حتى يقوم له البرهان على عدم إرادة الحقيقة، ويقوم له البرهان على تعيين مجاز دون مجاز.

ملاعبة الصيد - 1993

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia