ﺧﺼﺎﺋﺺ اﻷﻣﻢ 1

املﺮاد ﺑﺨﺼﺎﺋ ِﺺ اﻷﻣﻢ -أو ﻣﺎ ﻳَُﺴ ﱠﻤﻰ اﻟﻴﻮم ﺑﺎﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ-: ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻟﻪ أﺛﺮ ﰲ ﺗﺸﻜﻴﻞ أﻣﺔ ﻣﻦ اﻷﻣﻢ، ﻣﻦ اﻟﺪﻳﻦ واﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ واﻷﺧﻼق واﻟﻠﻐﺔ واﻟﻬﻴﺌﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺮؤﻳﺔ ﻟﻠﻜﻮن واﻟﺤﻴﺎة، وﻣﺎ ﻳﻨﺘﺞ ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻮع ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻋﻠﻮم وآداب وﻋﺎدات وأﻋﺮاف.

ﻓﻜﻞ أﻣﺔ وﻛﻞ ﺷﻌﺐ وﻛﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻟﻪ ﺧﺼﻮﺻﻴﺎﺗﻪ، وأّي أﻣﺔ أو ﺷﻌﺐ أو ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻻ ﻳﻤﻠﻚ ﺧﺼﻮﺻﻴﺎ ٍت ﻓﻬﻮ ﺗَ َﺠ ﱡﻤﻊ ﺑﴩﱞي ذاﺋﺐ وﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻟﻼﻧﺪﺛﺎر ﺗﺤﺖ ﻋﺒﺎءات اﻷﻣﻢ اﻷﺧﺮى، واﻷﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻔﻆ ﺧﺼﺎﺋَﺼﻬﺎ وﺗﻘﻮم ﺑﻮاﺟﺒﻬﺎ وﺗَُﻠﻘﻨُﻬﺎ أﺟﻴﺎ َﻟﻬﺎ ﻫﻲ اﻷﻣ ُﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﻘﻰ ﺑﻘﺎء اﻟﺘﺄﺛري واﻟﻌﻄﺎء واملﻨَﻌﺔ، ﻻ ﺑﻘﺎء اﻟﻮﺟﻮد وَﺣﺴﺐ؛ وﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﺗﻔﺮط أ ﱡي أﻣﺔ ﺑﴚء ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﻘﱰب ﻣﻦ ﻓﻨﺎﺋﻬﺎ، وﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﺧﺎﺻﺎ ﺑﺎﻷﻣﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﺳﻨﺔ ﻛﻮﻧﻴﺔ ﺗﺘﻀﺢ ﻟﻚ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺳﱪ ﺗﺎرﻳﺦ اﻷﻣﻢ ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ؛ ﻓﻤﺎ ﻣﻦ أﻣﺔ ﺻﻐﺮت أم ﻛﱪت، زاﻟﺖ أو اﻧﺼﻬﺮت ﰲ ﻏريﻫﺎ، إﻻ وﺗﺠﺪ ﻟﺘﺨﻠﻴﻬﺎ ﻋﻤﺎ اﺧﺘﺼﺖ ﺑﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﺎﻳﺎ واﻟﺴﻤﺎت أﺛﺮا ﰲ ذﻟﻚ؛ وﻣﺎ ﻣﻦ أﻣﺔ ﻋﺰت وﺑﻘﻴﺖ إﻻ وﻛﺎن ﻻﻋﺘﺼﺎﻣﻬﺎ

َﱠ ﺑﺴﺠﺎﻳﺎﻫﺎ وﻣﺜﻠﻬﺎ أﺛﺮ ﰲ ذﻟﻚ، ﺑﴫف اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﺗﻐﻠﺒﻬﺎ اﻟﻌﺴﻜﺮّي ﻣﻦ ﻋﺪﻣﻪ؛ ﻓﻘﺪ ﺗ ْﻬﺰم اﻷﻣﺔ ﻋﺴﻜﺮﻳﺎ أو اﻗﺘﺼﺎدﻳﺎ أو ﺳﻴﺎﺳﻴﺎ، أو ﺗْﻬﺰم ﰲ ﻛﻞ ذﻟﻚ، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﺣﻀﺎرﻳﺎ ﺑﻘﺎء ﻳﺠﻌﻞ ﻋﻮَدﺗﻬﺎ أﻣﺮا ﻣﺤﺘﻮًﻣﺎ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﻤﺴﻜﻬﺎ ﺑﺴﺠﺎﻳﺎﻫﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻈ ّﻞ ﺗ ِﻠ ّﺢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﻌﻮَد ﺑﻬﺎ إﱃ ﻣﻴﺪان اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺤﻀﺎرّي.

ﻧﻌﻢ، ﻫﻨﺎك ﺧﺼﺎﺋﺺ ﻟﻸﻣﻢ ﻧﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟ ّﺴﻮء ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻠ ِﻘﻨﺎ اﻹﺳﻼﻣ ّﻲ، وﻫﺬه اﻟﺨﺼﺎل اﻟﺴﻴﺌﺔ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻣّﻤﺎ ﻳﺘﻌﺎرض ﻣﻊ ﺑﻨﺎء ﻣﺠﺘﻤٍﻊ ﻣﺘﻤ ّﺪ ٍن، ﻛﺨﺼﻠﺔ اﻟ ُﻌ ْﺪواﻧﻴﺔ ﺑني ُﻣﻜ ﱢﻮﻧﺎت املﺠﺘﻤﻊ، ﺳﻮاء أﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻌﺪواﻧﻴﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻨﺎﻓﺲ زراﻋﻲ أم ﺗﺠﺎري، أم ﺗﻨﺎﻓﺲ ﻗﺒَﲇ.

ﻓﺎﻟﺘﻨﺎﻓﺲ اﻟﺘﺠﺎرّي واﻟﺰراﻋﻲ ﻳ َﺤ ﱢﺪﺛﻨﺎ ﻋﻨﻪ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﰲ اﻟﺘﺠﻤﻌﺎت اﻟﻘﺮوﻳﺔ اﻟﺰراﻋﻴﺔ أو اﻟﺴﺎﺣﻠﻴﺔ؛ ﻛﺤﺎل اﻟﻴﻮﻧﺎن ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد، وﺣﺎل إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ املﻴﻼدي، وﺣﺎل اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺒﻼد اﻟﺨﺼﺒﺔ واﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻨﺤﴪ ﻋﻨﻬﺎ اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ. أﻣﺎ اﻟﺘﻨﺎﻓﺲ اﻟﻘﺒَﲇ ﻓﺎﻷﺻﻞ ﻓﻴﻪ أن ﻳﻜﻮن

ﱠَ ﺑني ﺳﻜﺎن اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﺬﻳﻦ اﻷﺻﻞ ﻓﻴﻬﻢ أﻳﻀﺎ أﻻ ﺗﻜﻮن ﻟﻬﻢ دوﻟﺔ ﺑﺴﺒﺐ ﻋﺎﻣﻞ اﻗﺘﺼﺎدﱟي وﻋﺎﻣﻞ أﻣﻨﻲ؛ أﻣﺎ اﻻﻗﺘﺼﺎدّي ﻓﻸن اﻟﺼﺤﺮاء ﻻ ﺗﻤﺘﻠﻚ ﻣﻮارَد ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﻗﻴﺎم اﻟﺪَول؛ وأﻣﺎ اﻷﻣﻨﻲ ﻓﻸن ﻓﻘﺮ املﻮارد ﻳﺠَﻌﻞ ﺳﻜﺎن اﻟﺼﺤﺮاء ﻳﻌﺘﻤﺪون ﻋﲆ اﻗﺘﺼﺎد اﻟﺤﺮب؛ أي: ﺟﻌﻞ اﻟﺤﺮب اﻟﺒﻴﻨﻴﱠﺔ ﻣﺼﺪ ًرا أﺳﺎ ًﺳﺎ أو وﺣﻴ ًﺪا ﻟﻠﺪﺧﻞ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺸﺎرﻳﻊ إﻗﺎﻣﺔ اﻟﺪول ﰲ اﻟﺼﺤﺮاء ﺗﻔ َﺸﻞ داﺋ ًﻤﺎ، ورﺑﻤﺎ ﻻ ﻳَ ْﻌﺮف اﻟﺘﺎرﻳ ُﺦ ﻣﺤﺎوﻻت ﻛﺜرية ﻧﺠﺤﺖ ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻖ ذﻟﻚ؛ وﻗﺪ ﺣﺎول اﻟﻌﺮب وﻓﺸﻠﻮا ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺳَﻌﻮا ﻹﻗﺎﻣﺔ اﻣﺘﺪاد ﻟﺪوﻟﺔ ﻛﻨﺪة ﰲ وﺳﻂ اﻟﺠﺰﻳﺮة وﺷﻤﺎﻟﻬﺎ؛ وﻟﻮ أن دوﻟﺔ املﺮاﺑﻄني اﻗﺘﴫ ﺑﻘﺎؤﻫﺎ ﻋﲆ ﻣﻜﺎن ﻧﺸﺄﺗﻬﺎ -وﻫﻮ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪىملﺎ اﺳﺘﻄﺎﻋﺖ اﻻﺳﺘﻤﺮار؛ ﻟﻜﻦ ﺑَْﺴﻂ ﻧﻔﻮذﻫﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ ﻹﻓﺮﻳﻘﻴﺎ وﺟﻨﻮب أوروﺑﺎ ﺣ ﱠﻘﻖ ﻟﻬﺎ اﻟﻨﺠﺎ َح ﻛﺪوﻟﺔ؛ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﻢ ﻳُﻼق ﺟﻨﺎ ُﺣﻬﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻲ املﻨﺒﺴﻂ ﻣﻦ اﻟﺴﻨﻐﺎل ﺣﺘﻰ ﻏﺎﻧﺎ اﻟﻨﺠﺎح ﻧﻔَﺴﻪ، رﺑﻤﺎ ﻟﺼﻌﻮﺑﺔ ﺗﻔﻜﻴﻚ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻹﻓﺮﻳﻘﻴﺔ آﻧﺬاك.

ﻗﻠﺖ: إ ﱠن اﻟﺨﺼﺎﺋ َﺺ اﻟﺴﻴﺌَﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﺎرض ﻣﻊ اﻟﺘﻤﱡﺪن ﻻ ﻳُﻤﻜﻦ املﻄﺎﻟﺒُﺔ ﺑﺎﺳﺘﺒﻘﺎﺋﻬﺎ؛ ﺑﻞ إن اﺳﺘﺒﻘﺎ َءﻫﺎ ﺳﻴﻜﻮن ﺣﺘ ًﻤﺎ ﻋﺎﺋ ًﻘﺎ دوَن اﻟﺼﻌﻮد اﻟﺤﻀﺎر ﱢي.

أﻣﺎ اﻟﺨﺼﺎل اﻟﺴﻴﺌﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺳﻮﺋﻬﺎ ﻳُﻤﻜﻦ ﻣﻊ وﺟﻮِدﻫﺎ إﻧﺸﺎ ُء ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﺪﻧﻲ ﻓﻬﻲ ﻛﺜرية، وﻣﻨﻬﺎ اﻟﻔﺴﺎد اﻟﻌﻘﺪّي واﻟﻔﺴﺎد اﻷﺧﻼﻗﻲ، ﻓﻘﺪ ﺗﺒﻠﻎ ﺑﻌ ُﺾ اﻷﻣﻢ ﻗ ﱠﻤﺔ ﻣﺠﺪﻫﺎ اﻟﺤﻀﺎرﱢي ﰲ ﻇﻞ وﺟﻮد اﻟﻔﺴﺎدﻳﻦ؛ ﻛﺎملﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ذَﻛﺮ اﻟﻠﻪ إﻫﻼﻛُﻪ إﻳﺎﻫﺎ ﰲ اﻟﻘﺮآن، ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎ ٍت ﻣﺪﻧﻴّ ًﺔ ﻓﺎﺳﺪ ًة ﻋﻘﺪﻳٍّﺎ وأﺧﻼﻗﻴٍّﺎ، ﻛﻤﺎ ﺟﺎء ﰲ اﻟﻜﺘﺎب اﻟﻌﺰﻳﺰ وﺻ ُﻒ ﻋﺎد وﺛﻤﻮد وﻗﻮم ﻓﺮﻋﻮن؛ ﻟﻜ ﱠﻦ َﺳﺒَ َﺐ ﺣﻀﺎرِﺗﻬﻢ وﻣﺪﻧﻴﱠﺘﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ذﻟﻚ اﻻﻧﺤﺮاف، وإﻧﻤﺎ ﻛﺎن ﴎﻫﻤﺎ ﺷﻴﺌﺎ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺨﺼﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺄ ﺑﻔﻀﻠﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرات ﻛﺎﻟﻌﻠﻢ واﻟﺼﻨﺎﻋﺔ واملﻌﻤﺎر واﻟﻘﻮة واﻷﻣﺎﻧﺔ واﻟﻌﺪل واﻟﺼﱪ واﻟ ِﻮﺣﺪة واﻹدارة؛ وُﻛ ﱡﻠﻬﺎ ﺧﺼﺎ ٌل ﻻ ﻣﺎﻧﻊ ﻣﻦ أن ﺗﻘﻊ ﰲ أﻣﺔ ﻣﺒْﺘﻼة ﺑﺎﻻﻧﺤﺮاف اﻟﻌﻘﺪي واﻷﺧﻼﻗﻲ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺤﺎل ﰲ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻨﺖ ﺣﻀﺎرة وﻣﺠًﺪا ﻃﻮﻳﻠني ﺑﻔﻀﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻠﻜﻪ اﻟﺮوﻣﺎن ﻣﻦ ﺧﺼﺎﺋﺺ ذاﺗﻴﺔ ﰲ أﻣﺘﻬﻢ، وﺧﺼﺎﺋﺺ ﰲ ﺑﻨﻴَﺔ اﻟﺪوﻟﺔ وإدارﺗﻬﺎ إﻗﻠﻴﻤﻴٍّﺎ وﻋﺴﻜﺮﻳٍّﺎ وﻗﺎﻧﻮﻧﻴٍّﺎ، وﻣﺎ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻣﻦ املﻌﻤﺎر واﻟﺼﻨﺎﻋﺔ؛ وﺑﻤﺎ أﻧﻨﺎ ﻗﻠﻨﺎ: إن اﻟﺤﻀﺎرة ﺗﻨﺸﺄ ﻣﻊ وﺟﻮد اﻻﻧﺤﺮاﻓﺎت ﰲ اﻟﻌﻘﻴﺪة واﻷﺧﻼق ﻓﺈ ﱠن ﻫﺬه اﻻﻧﺤﺮاﻓﺎ ِت ﺗﺒﻘﻰ ﺷﺆًﻣﺎ ﻋﲆ اﻟﺤﻀﺎرِة ﺣﻴُﺚ ﺗﺒﻘﻰ ﺗﻨَﺨﺮ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ ﻛﻤﺎ ﻧﺨﺮت ﰲ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ، إﱃ أن أﺻﺒﺢ أﺿﻌﻒ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ أن ﻳﺤﻤَﻞ اﻷﻋﺒﺎء اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ؛ إ ًذا ﻓﻤﺜﻞ ﻫﺬه اﻻﻧﺤﺮاﻓﺎت وإن ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗَُﺤﻮل دون ﻗﻴﺎم اﻟﺤﻀﺎرة، إﻻ أن ُﻃﻐﻴﺎﻧﻬﺎ ﻳَُﺤﻮل دون اﺳﺘﻤﺮار اﻟﺤﻀﺎرة، وﻟﻌﻞ ﻣﻤﺎ ﻳَُﺼ ﱢﺪ ُق ذﻟﻚ ﻗﻮل اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﱃ: ﴿وإذا أردﻧﺎ أن ﻧﻬﻠﻚ ﻗﺮﻳﺔ أﻣﺮﻧﺎ ﻣﱰﻓﻴﻬﺎ ﻓﻔﺴﻘﻮا ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺤﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻘﻮل ﻓﺪﻣﺮﻧﺎﻫﺎ ﺗﺪﻣريا﴾ ]اﻹﴎاء: ،[16 ﻓﺎﻟﻔﺴﻖ ﻣ َﺪ ﱢﻣﺮ ﻟﻠﺤﻀﺎرة وﻟﻴﺲ ﻣﺎﻧًﻌﺎ ﻣﻦ ﻧﺸﻮﺋﻬﺎ. اﺳﺘﺸﻜﺎل وﺟﻮاﺑﻪ: وﻫﻨﺎ ﻣﺤﻞ اﺳﺘﺸﻜﺎل وﻫﻮ: أﻟﻢ ﻧﻘﻞ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ: إن اﻷﺧﻼق واﻷﻋﺮاف ﻣﻊ ﻣﺎ أﻧﺘﺞ ﻣﻦ دﻳﻦ وﻟﻐﺔ وﺗﺎرﻳﺦ وﺟﻐﺮاﻓﻴﺎ ﻫﻦ ﻣﻦ ﺧﺼﺎﺋﺺ اﻷﻣﻢ؟! ﻓﻜﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل: إن اﻟﺪﻳﻦ املﻨﺤﺮف واﻷﺧﻼق اﻟﻔﺎﺳﺪة ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﻬﻤﺎ إﻗﺎﻣﺔ ﺣﻀﺎرة، ﻣﻊ أن إﺻﻼح اﻟﺪﻳﻦ واﻷﺧﻼق ﻻزَﻣﺎن، ﻓﻬﻞ ﻳﺘﻨﺎﰱ إﺻﻼﺣﻬﻤﺎ ﻣﻊ اﺳﺘﺒﻘﺎء اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﺰم ﻟﺒﻘﺎء اﻟﺤﻀﺎرات؟! واﻟﺠﻮاب ﻋﲆ ﻧ ْﺤ َﻮﻳﻦ: ﻧﻈﺮي وﺗﻄﺒﻴﻘﻲ: أﻣﺎ اﻟﻨﻈﺮي ﻓﻨﻘﻮل: ﻧﻌﻢ إن اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﻋﻘﻴﺪة ﻣﻨﺤﺮﻓﺔ وأﺧﻼق ﻓﺎﺳﺪة ﻳﻠﺰم أﻫ َﻠﻬﺎ إﺻﻼُﺣﻬﺎ، ﻓﺈن ﻧﺠﺤﻮا ﰲ ذﻟﻚ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮن ﻗﺪ أ ﱠﺳﺴﻮا ﺣﻀﺎرًة ﺟﺪﻳﺪة ﺗﻨﺤﴫ ﻋﻼﻗﺘﻬﺎ ﺑﺎﻷوﱃ ﰲ اﻟﺰﻣﺎن واملﻜﺎن وﺣﺴﺐ.

وأﻣﺎ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺜﺎﻧﻲ اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻲ: ﻓﺈن ذﻟﻚ اﻷﻣﺮ املﻔﱰض ﻏري واﻗﻊ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺎ، ﻓﺎﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻻ ﻳ َﺤﱢﺪﺛﻨﺎ ﻋﻦ أﻣﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﺤﺮﻓﺔ ﰲ اﻟﺪﻳﻦ واﻷﺧﻼق ﺛﻢ أﺻﻠﺤﺖ ﻧﻔ َﺴﻬﺎ ﰲ ﺳﻴﺎق زﻣﻨ ّﻲ وﻣﻜﺎﻧ ّﻲ واﺣﺪ.

ﻧﻌﻮد ﻟﻠﺪوﻟﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﺿﻌﻔﻬﺎ اﻟﻔﺴﻖ ﻋﻦ ﺣﻤﻞ أﻋﺒﺎء اﻟﺤﻀﺎرة، ﻓﻠﻢ ﺗﺠﺪ ﺑﺪا ﻣﻦ إﺿﻔﺎء اﻟﻘﺪاﺳﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴّﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻛﻲ ﺗُﻐ ّﻄَﻲ ﻫﺬا اﻟﺨﻮاء اﻟﺪاﺧﲇ اﻟﺬي أﺻﺒﺢ ﻳﻬﱢﺪد أرﻛﺎﻧﻬﺎ؛ ﺣﺘﻰ ﺟﺎء اﻟﻔﺘﺢ اﻹﺳﻼﻣﻲ اﻟﺬي ﺣﻤﻞ روًﺣﺎ ﺗْﺴﻘﻂ اﻟﻘﺪاﺳﺔ ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء إﻻ اﻟﺤﻖ، ﻓﺘﻬﺎوت ﻫﺬه اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﺑﴪﻋﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ أﻣﺎم ﺟﻨﻮد اﻟﻔﺘﺢ اﻹﺳﻼﻣﻲ اﻷﻗﻞ ﻋﺪًدا وﻋﺪة ﺑﻤﺮاﺣﻞ ﻛﺜرية؛ وذﻟﻚ ﻷن دﻋﻮَة اﻹﺳﻼم ﻗﺒﻞ أن ﺗُْﺴ ِﻘ َﻂ اﻟﺒﻨﺎ َء اﻟﻌﺴﻜﺮﱠي واﻹداري اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ أﺳﻘ َﻄﺖ اﻟﻌﻤﻮَد اﻟﺬي ﻳﻘﻮم ﻋﻠﻴﻪ ذﻟﻚ اﻟﺒﻨﺎء وﻫﻮ دﻋﻮى اﻟﻘﺪاﺳﺔ، ﻓﻠﻤﺎ ﺳﻘﻂ اﻷﺳﺎس املﻌﻨﻮﱡي ﻟﺘﻠﻚ اﻟﺪوﻟﺔ اﻧﻬﺎرت ﺳﺎﺋﺮ ﺟﻮاﻧﺒﻬﺎ؛ واﻷﻣﺮ ﰲ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻜﴪوﻳﺔ ﺷﺒﻴ ٌﻪ ﺑﺬﻟﻚ ﻛ ّﻠﻪ.

واﻟﺪ َول ﻫﻲ اﻷوﻋﻴﺔ اﻟﺼﺤﻴ َﺤﺔ ﻟﻠﺤﻀﺎرات، وﻣﻦ اﻟﺘﻜ ﱡﻠﻒ اﻟﺸﺪﻳ ِﺪ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺒﻌﺾ إﺛﺒﺎ َت ﺣﻀﺎرا ٍت ﻟﺸﻌﻮٍب ﻟﻢ ﺗﻨﺘ ِﻈﻤﻬﺎ دوﻟﺔ؛ ﻛﺎﻟﺸﻌﻮب اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﰲ املﻨﺎﻃﻖ املﺘﺠﱢﻤﺪة أو ﺷﻌﻮب اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪى، إﻻ وﻓﻖ ﺗﻌﺮﻳﻒ واﺳﻊ ﺟﺪا ﻟﻠﺤﻀﺎرة ﻳﺸﻤﻞ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺑﻤﻔﻬﻮﻣﻬﺎ اﻟﻮاﺳﻊ اﻟﺬي ﻳﻀﻢ اﻟﻠﻐﺔ واﻟﻠﺒﺎس واﻟﻔﻨﻮن واملَِﻬﻦ؛ ﻓﻌﲆ ﻣﺎ أ ْﺧﺘَﺎ ُرُﻩ ﻣﻦ ﺗﻌﺮﻳﻔﺎت ﻓﺈ ﱠن ﻛ ﱠﻞ اﻷﻣﻢ ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﺛﻘﺎﻓٌﺔ ﺣﺘﻤﻴﱠﺔ ﺗﻘﻮم ﺑﻬﺎ ﺣﻴﺎﺗُﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻌﺎرف ﺑﻴﺌﻴﱠﺔ وِﻣ َﻬﻨﻴﺔ وﻓﻨﻮن وﻗﻮاﻧني ُﻋﺮِﻓﻴﱠﺔ، وﻣﻌﻨﻰ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺣﺘﻤﻴﱠﺔ: أن اﻷﱠﻣﺔ ﻟﻢ ﺗ َﺤ ﱢﺼﻠﻬﺎ ﺑﺎﺟﺘﻬﺎدﻫﺎ وﺳﻌﻴﻬﺎ وﻣﺜﺎﺑﺮﺗﻬﺎ؛ ﺑﻞ ﻫﻲ ﻣﻌﺎرف ﻓﺮﺿﺖ ﻧﻔَﺴﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﺮاﻛﻢ املﻌﻠﻮﻣﺎت واﻟﺨﱪات ﻋﱪ اﻷﺟﻴﺎل اﻟﻜﺜرية املﺘﻄﺎوﻟﺔ؛ ﻣﺜﺎل ذﻟﻚ: ﻋﻠﻢ اﻟﻨﺠﻮم اﻟﺬي ﻫﻮ ﻋﻠﻢ دﻗﻴﻖ ﺟﺪا، ﺗﺘﻮارﺛﻪ اﻟﺸﻌﻮب اﻟﺒﺪوﻳﺔ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة اﻟﻌﺮب واﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻜﱪى وﺻﺤﺮاء ﻣﻨﻐﻮﻟﻴﺎ وﻏريﻫﺎ، ﻳﻌﺮﻓﻮن ﺑﻪ ُﻃﺮَق اﻟﺴري واﺧﺘﻼَف اﻟﻔﺼﻮل وﺗﻮّﺟﻬﺎت اﻟﺮﻳﺎح واﻷﻣﻄﺎر وأوﻗﺎت اﻟﺰرع واﻟﺤﺼﺎد وأوﻗﺎت اﻟﺼﻴﺪ، وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻻ أ ُﻋ ﱡﺪ ﻫﺬا اﻟﻌﻠ َﻢ ﺑﻬﺬه اﻟﻜﻴﻔﻴﱠﺔ ﺣﻀﺎرًة، ﺑﻞ ﺛﻘﺎﻓﺔ أﻛﺴﺒَﺘﻬﻢ إﻳﺎﻫﺎ اﻟﺤﺎﺟﺔ وﺗﺮا ُﻛُﻢ اﻟﺨﱪات، وﻟﻴﺲ ﻃﻠﺐ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﺘﺄﻣﻞ واﻟﺘﺠﺮﺑﺔ؛ واﻟﺸﻌﻮب اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺘﻠﻚ ﺛﻘﺎﻓﺎت ﻟﻴﺲ ﺣﺘًﻤﺎ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﺣﻀﺎرة؛ وﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﺗﻠﻚ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت ﻧﻮاة ﰲ أﻣﺔ ﻟﺒﻨﺎء ﺣﻀﺎرة ﻗﻮﻳﺔ.

اﻟﺤﺎﺻﻞ ﻣﻤﺎ ﺗﻘﺪم: أن ﻛﻞ أﻣﺔ ﻣﻦ اﻷﻣﻢ ﻋﱪ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﺤﺪﻳﺚ ﻟﻬﺎ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﺗﻤﻴﺰﻫﺎ ﻋﻦ ﻏريﻫﺎ، وﺗﻮﺟﺐ أن ﺗﺘﻌﺎﻣﻞ وأن ﺗَُﻌﺎ َﻣﻞ وﻓ َﻖ ﻣﺎ ﺗﻘﺘﻀﻴﻪ ﺧﺼﺎﺋﺼﻬﺎ.