المعجزة السومرية

مصطلح »معجزة« يعتبر من المصطلحات غير المرغوبة بين المثقفين إلا إذا أتت مقترنة بالحضارة اليونانية، فتجد كثيرا من المثقفين يرددون هذا المصطلح، ولكن هل كانت معجزة ما حصل في اليونان أم إنها إحدى حلقات التطور الطبيعي للمعرفة وإذا جاز تسميتها معجزة لماذا لا تسمى غيرها معجزة؟ مثلا لا نسمع عن المعجزة المصرية والمعجزة الهندية والمعجزة الصينية والمعجزة العربية وطبعا قبل كل هذا المعجزة الرافدية حيث بدأ التاريخ والحضارة والعلوم.

في البداية من المؤكد أن المعرفة تراكمية، ومسيرة الإنسان العلمية على مر التاريخ هي مسيرة تراكم معرفي حتى مع سومر، ورغم أننا لا نعرف أحدا سبقهم من الأمم لهذه المعارف إلا أنه على الأرجح أنهم اكتسبوها بخبرات تراكمية ربما من أسلافهم هم.

ثانيا: لا يصح إنكار دور الحضارة اليونانية أو الانتقاص منها، ولكن الخطأ هو إنكار فضل الآخرين ومرحلة الحضارة اليونانية كانت من المراحل المهمة في مسيرة البشر المعرفية، وهي مرحلة متأخرة جدا نشأت أغلب العلوم والمعارف شرقها وقبلها بآلاف السنين، ومن المعلوم أن بلاد الرافدين هي منشأ الحضارة الأول ومنشأ التمدن والزراعة ومنشأ القانون والكتابة والرياضيات وعلوم الفلك والطب بل والفلسفة واللاهوت فأول لاهوتا وأول نظريات نشأة الكون بدأت في بلاد الرافدين، وفوق كل هذا لا يزال المجهول عن هذه الحضارة أكثر من المعلوم ويقدر بعض المختصين عدد الألواح المكتشفة اليوم من حضارة بلاد الرافدين بأكثر من مليون لوح ولكن لم يترجم منها إلا أقل من %10

وبعض هذه الألواح تصور لنا طبيعة الحياة المتحضرة التي كانوا يعيشونها في ذاك الزمان البعيد، فمثلا يروي أحد هذه الألواح قصة ملك الوركاء الذي تلقى تهديدا من مملكة كيش يدعوه للحرب أو الاستسلام ورغم أن الملك كان يفضل الحرب فإنه عرض الرأي على »مجلس الشيوخ« الذي اختار قرار الاستسلام على خلاف رغبة الملك مما اضطر الملك لإعادة عرض القرار على »مجلس محاربي المدينة الشباب«، الذي نقض قرار مجلس الشيوخ وقرر الحرب.

يعلق على هذا اللوح الخبير العالمي في تاريخ سومر صموائيل كريمر قائلا »لم يكن لأي فرد أن يتصور أن أول جمعية تأسيسية كانت قد عقدت قبل آلاف السنين في الشرق الأوسط وليس في أوروبا .«

وأيضا من لطائف هذه الصور التي تنقلها لنا هذه الألواح يوميات أحد طلاب المدرسة، تلك المؤسسة العظيمة التي اخترعتها الحضارة السومرية قبل خمسة آلاف سنة، والتي كانت منتشرة في أرجاء البلاد وكان التعليم نظاميا وكان مدير المدرسة يدعى »أب المدرسة« والمدرس يدعى »الأخ الأكبر« تروي هذه الوثيقة يوميات طالب صغير يستيقظ مبكرا فتقوم أمه بتجهيزه وتزويده بالوجبة التي سوف يصحبها معه، فالدوام المدرسي يستمر طوال النهار، يذهب الطالب إلى المدرسة ويقوم بسرد ما طلب منه حفظه كما يقوم بنسخ الألواح المطلوب منه نسخها، يحترم الطالب الأستاذ وكذلك يخشى عقابه »بالعصا« ثم يعود آخر النهار إلى البيت يحمل واجباته التي سيختبر فيها اليوم القادم.

هذه حياة طفل صغير من أبناء حضارة سومر قبل خمسة آلاف سنة، وهذه هي مدارسهم التي يشمل منهجها الكتابة واللغة والرياضيات واللاهوت وعلم النبات والحيوان والجغرافيا والتعدين، وقد اكتشف إلى اليوم أكثر من ألف لوح تخص مؤسسة مدارس سومر.

سومر الحضارة الأولى للإنسان مذهلة في كثير من تفاصيلها ولكنها لا تحظى بالتقدير الذي

هذا ا9رث الحضاري العظيم لا يزال غير مترجم وغير مدروس بالشكل المرضي إلى اليوم ومن يحتبسونه يرفضون إعادته إلى أهله.

تحظى به حضارات أخرى أتت من بعدها بقرون طويلة من الزمن واستفادت من الحضارة الأم ربما يكون هذا بسبب تأثير سلبي لا واعٍ خلقه كتاب العهد القديم في العقل الجمعي عن حضارة بابل التي يصفها أنها أم رجاسات الأرض، والتي لن تقوم لها قائمة إلى الأبد، وقد يكون لأسباب أخرى، إنما الأهم هو أن هذا الإرث الحضاري العظيم لا يزال غير مترجم وغير مدروس بالشكل المرضي إلى اليوم، وإذا كان من يحتبسونه يرفضون إعادته إلى أهله، فأقل ما نرجو أن يتم تصويره ونشره للجميع بحيث يصل إليه الدارسون والمهتمون من جميع أنحاء العالم فهذا هو إرث حضارة البشر الأولى.