قصة نجاح مولدوفا التي لا تقهر
07
فيمـا تتنافـس القـوى العظمـى عالميـا فيمـا بينهـا، تتوافـق مصالـح اللاعبـين الأقويـاء بطبيعـة الحـال مـع مراكـز الثقـل في النظـام الـدولي، لكـن مـع ذلـك يمكـن للجهـات الفاعلـة الصغـيرة أن تقدم مسـاهمات إيجابيـة في النظـام العالمـي القائـم عـلى تلـك القواعـد. وتشـكل مولدوفـا مثـالاً مثاليـاً عـلى ذلـك.
منــذ اســتقلالها، ظلــت مولدوفــا تحــاول الهــروب مــن إرث مــا بعــد الاتحــاد الســوفييتي في مواجهــة الأنشـطة الروسـية التـي لا تنتهـي لزعزعـة الاسـتقرار. وتبـدو القيـادة الحاليـة في مولدوفـا جـادة وملتزمة بتعزيـز مصالـح البـلاد، حيـث تتـولى رئيسـة مولدوفـا مايـا سـاندو، ورئيـس الـوزراء دوريـن ريسـيان، وكلاهمـا خبـيران اقتصاديـان، قيـادة سـفينة الدولـة في هـذا الاتجـاه. تركــز القيــادة المولدوفيــة عــلى اتبــاع مســار ديمقراطــي بالشراكــة مــع أكثــر الديمقراطيــات تقدمــا وازدهــارا في العالــم، وهــي جــادة في اتخــاذ القــرارات الصعبــة لانتشــال البــلاد مــن ماضيهــا ووضعهــا عــلى الطريــق نحــو التحــول إلى دولــة عاليــة الأداء، وفي نهايــة المطــاف، عضــو في الاتحــاد الأوروبــي بحلـول 2030. إن سـاندو، الخبـيرة الاقتصاديـة المحترفـة التـي خدمـت فـترات طويلـة في البنـك الـدولي وفي الحكومــة، وريســيان رجــل الأعمــال الناجــح، يكمــلان بعضهمــا مــن خــلال الحفــاظ عــلى التركيــز التشريعـي عـلى إجـراء تغيـيرات بنيويـة مهملـة لفـترة طويلـة. وكانـت سـاندو صارمـة وغـير اعتذاريـة في تصميمهــا ونجحــت في توجيــه البــلاد نحــو هــذا الهــدف، لكــن الأمــر لــم يكــن ســهلاً. لـم تسـتحوذ مولدوفـا عـلى اهتمـام الغـرب حتـى وقـت قريـب. وبلـغ عـدد سـكانها 2.6 مليـون نسـمة، وهـي دولـة صغـيرة تواجـه تحديـات اقتصاديـة. عنـد الاسـتقلال، كانـت مولدوفـا دولـة ضعيفـة للغايـة، وكانــت ملعبــا مثاليــا للقــادة الفاســدين وحاشــية مــن القلــة البلطجيــة، وكان دعــم الإصلاحــات اللازمــة لترســيخ ســيادة القانــون الفعّالــة، والحكــم الرشــيد، والمؤسســات القويــة، بمثابــة لعنــة في نظــر تلــك القلــة أو أولئــك الفاســدين. وأدى نمــوذج النمــو الاقتصــادي الـذي يعتمـد عـلى الاسـتهلاك الـذي تعـززه التحويـلات الماليــة إلى توليــد بعــض النمــو والحــد مــن الفقــر عــلى مــر الســنين، ولكنــه ليــس مســتداما عــلى المــدى الطويــل. منــذ عــام 2007، عانــى الاقتصــاد المولــدوفي مــن 5 أزمــات متتاليــة، وتأثــر بشــدة بالوبــاء والــصراع في أوكرانيــا. مــع اقتصــاد يبلــغ 16 مليــار دولار فقــط، تعـد مولدوفـا ثالـث أفقـر دولـة فيفي أوروبـا، حيـث يبلـغ نصيـب الفـرد 6410 دولارًا (بعـد أوكرانيـا وكوسـوفو)، أي 14 % فقـط مـن نصيـب الفـرد مـن الناتـج المحـلي الإجمــالي في منطقــة اليــورو. ولــم تكــن البــلاد قــادرة عــلى تحقيــق التنميــة بالقــدر الــكافي بســبب ضعــف التقـدم المحـرز في إصـلاح المشـاكل البنيويـة المهملـة منذ فـترة طويلـة، والتدخـل الـروسي الخبيـث لإبقـاء البـلاد ضعيفــة. زاد الاسـتثمار الأجنبـي المبـاشر في مولدوفــا 4 مــرات تقريبــا مــن 150 مليــون دولار في 2020 إلى 587 مليــون دولار في 2022، عــلى الرغــم مــن الوضـع الأمنـي المحفـوف بالمخاطـر، وهــذا يــدل عــلى عمــل كبــير في مولدوفــا. وتركيــزا عــلى تأييــد القانــون للأعمــال التجاريــة، أصــدرت الحكومــة أخــيراً مبــادرة مجمعــات تكنولوجيــا المعلومــات في مولدوفــا MITP)،( والتــي تهــدف إلى بنــاء قطــاع التكنولوجيــا في البــلاد. أصبحـت مولدوفـا مركـزًا تكنولوجيًـا جذابًـا حيـث تضـم أكثـر مـن 1600 شركـة لتكنولوجيـا المعلومـات، بمـا في ذلـك 230 شركـة ذات رأس مـال أجنبـي. باســتثناء أوكرانيــا، كانــت مولدوفــا أكثــر دولــة نالهــا العــداء الــروسي لزعزعــة اســتقرار حكومتهــا الحاليـة. واسـتخدمت روسـيا سـلاح رفـع أسـعار الطاقـة للتأثـير عـلى مولدوفـا التـي اسـتفادت مـن حزمـة الدعـم قدمهـا الاتحـاد الأوروبـي بــ250 مليـون يـورو في التغلـب عـلى فصـل الشـتاء القـارس، وأثبتـت أنهـا قـادرة عـلى الصمـود وسـتعمل عـلى تطويـر مصـادر جديـدة لإمـدادات الطاقـة. وبعـد فشـلها في اسـتخدام أسـعار الطاقـة لإسـقاط الحكومـة، واصلـت روسـيا عـبر حمـلات تضليليـة التأثـير عــلى اســتقرار مولدوفــا، واســتخدمت الهجمــات الســيبرانية والإجــراءات النشــطة التــي تهــدف إلى تعطيــل الانتخابــات والإطاحــة بالحكومــة. وعــلى الرغــم مــن تدخــل روســيا وأنشــطتها الخبيثــة، هنــاك نقطــة مضيئــة في الأفــق. حيــث تشــهد مولدوفـا تغـيراً اقتصاديـاً إيجابيـاً. فقـد أدت السياسـات الجديـدة لتحسـين سـهولة ممارسـة الأعمـال التجاريــة والدعــم مــن الحكومــات الغربيــة إلى ظهــور اســتثمارات أجنبيــة مبــاشرة جديــدة .(FDI) كانــت مولدوفــا، تصــدّر معظــم بضائعهــا إلى روســيا، لكنهــا الآن تصــدر أكثــر مــن 80 % مــن بضائعهــا إلى أســواق أخــرى في أوروبــا وأمريــكا الشــمالية وأماكــن أخــرى. وفي العــام المــاضي وحــده، ضاعــف الاتحــاد الأوروبــي تقريبًــا مســاعداته الماليــة لمولدوفــا إلى مــا يقــرب مــن 295 مليـون يـورو (220 مليـون يـورو في شـكل قـروض و75 مليـون يـورو في شـكل منـح). وبالمثـل، منـذ فبرايـر 2022، تعهـدت الولايـات المتحـدة بمبلـغ 320 مليـون دولار في شـكل دعـم طـارئ لمسـاعدة مولدوفـا على معالجـة الآثـار الاقتصاديـة والطاقـة والأمنيـة والإنسـانية الناجمـة عـن حـرب بوتـين ضـد أوكرانيـا.