Al-Watan (Saudi)

منسيا في متاهته عن الشعارات السياسية ودواعي هزيمتها

- أحمد جابر

ســقطت الشــعارات السياســية التــي ارتفعــت بعــد اســتقلال الأقطــار العربيــة، وليــس للســقوط غــير معنــى واحــد: فشــل السياســات ببُعدَيْهــا، النظــري والعمــلي، في الانتقـال بالـدول التـي نالـت اسـتقلالَها مـن واقــع الإدارة الاســتعما­رية إلى همــوم الإدارة الوطنيــة ومشــاغلها.

لكــن هزيمــة الشــعارات أنجبــت عــلى يــد القــوى المهزومــة ظاهــرةَ »الشــعارية«، بحيــث ســاد الخطــاب مــكان الواقــع، وحــل المــاضي في ديــار الحــاضر، وظــل الحنــينُ قائــدًا لمَســيرةِ المُســتقبل. ومثلمــا كان لاندفاعــةِ البنــاء الاســتقلا­لي نُخَبُهــا وجمهورُهـا، كان لترهـلِ مسـيرة البنـاء ذاتـه، نُخَبُـه البديلـة، التـي زينـتِ السـوء، ودافعـت عــن أفعالــه القبيحــة.

العــودة إلى مقولــة الشــعار والشــعاري­ة، تشــكل مَمــرًا إلزاميًــا، مطلوبًــا، إلى القــراءات الاسـتعادي­ة التـي لا تُعلِـن، بوسـائل الحاضر، عدميــة تَنكــر المســالِك الحيــة للأحــداث الماضيــة، ولا تتمســك بتبريــراتٍ واهيــة تُحيــل »عجــز الأمــة« إلى سياســاتِ الهيمنــة الاســتعما­رية، التــي تخلــت عــن إرث الاســتعما­ر المــادي في كل الديــار العربيــة. حتــى الآن، مــا زال العامــلان الداخــلي والخارجــي، مُتضافرَيــن، ومــا مــن هَيْمَنَــةٍ خارجيــة، أجنبيــة كانــت أم مــن حــواضر البَيــت، إلا وارتكــزت عــلى قواعــد أهليــة واجتماعيـة محليـة، لهـا أسـماؤها وعناوينها، وكلماتهـا المكتوبـة بدقـة، والمقـروءة بتمهـل، وبلفــظٍ عربــي واضــح اللســان.

لا يُســتبعَد مــن التاريــخ، كمــا جــرى التاريـخ، توزيـع العمـر الاسـتقلال­ي العربـي، القُطــري والعــام، حقبــات ومراحــلَ كان لــكل منهــا ســماتها، وعَــرفَ كلٌ منهــا إنجــازاتٍ وإخفاقــات، وقــدم المشــهد المُشــترَك في كل منهــا ذاتــه، وفــق خطــوطٍ وألــوانٍ نافــرة أو باهتــة. وكان مـا تقـدم، يَضَـع البحـثَ أمـام سـؤال البِنـى مجـددًا، ويعـود بـه إلى الأسـباب بـدل أن يطيـل الوقـوف أمام النتائــج. هكــذا يُمكــن وصْــفُ النقــاش المتجــدد في واقــع الحــال العربــي، وفي اليوميــات الوطنيــة، بأنــه نقـاشٌ تأسـيسي جديـد، مـن حيـث أدوات النظـر، وبرامـج العمـل، ومـن حيـث المـادة المجتمعيـة المطلـوب النظـر إليهـا، تلـك المـادة التـي تحمـل دواخلهـا جوانـب أساسـية حاسـمة مـن بنيتهـا التكوينيـة الأولى، وتتلــوى في مَســالك تعبيراتهــ­ا، حَجْبًــا وتمويهًــا للمقاصــد المصلحيــة، أو إعلانًــا صريحًــا لهــا عــلى المــلأ، وعـلى رؤوس الأشـهاد. في سـياق البحـث الجديـد هـذا، يصـح القـول إن الوعـي مضطـر للانتقـال مـن مرحلـة الاسـتقلال­ات بعـد مُعاينتهـا، إلى مرحلـة مـا بعـد الاسـتقلال­ات التـي دَخَـلَ »الاجتمـاع العربـي« في أتـون تفاعلاتهـا اللاهبـة. في مُواجهـة حصيلـةِ عقـودٍ مـن الزمـن العربـي، الـذي انتهـى رديئًـا عـلى كل المسـتويات، يجـب القـول إن البنــى العربيــة التقليديــ­ة قــد عــادت لاحتــلالِ واجهــة الحَــدَث، مــع كل حصائــل خَيْبَتِهــا، وإنهــا، وهــي تســعى إلى التعويــض عــن خســائر محاولتهــا السياســية »الاندماجيـ­ـة«، تُوْغِــل في اســتحضارِ مصــادر عصبياتهــا »الافتراقيـ­ـة«. والحــال، أن الحصيلــةَ العامــةَ الناجمــةَ عــن انبعــاث الافــتراق، هــي الخلاصــة القائلـة إن »الوحـدة«، العامـة والوطنيـة، كانـت هـي الاسـتثناء، فيمـا تجميـع عنـاصر الفرقـة قسريًـا، في صيغـةِ وحـدةٍ هـي القاعـدة. وعليـه، فـلا ضـير في إعـلان أن الاسـتعمار الغربـي عندمـا »أهـدى« البـلاد اسـتقلالَها، إنمـا ركـبَ عـلى التجزئـة، ولـم يَعمـد إلى تجزئـة وحـدة يَفترضهـا الكثـيرون حتـى تاريخـه، ويناضلــون في ســبيل اســتعادة مجدهــا الغابــر. في وســط كل ذلــك قــوى مجتمعيــة يُمكــن تعريفهــا، سياســيًا وثقافيًــا وعــلى صعيــد المصالـح. عـلى هـذا الأسـاس، يُمكـن التقـدم بالحديــث التاريخــي خطــوة، أو خطــوات، لإعـلان وفـاة مـا مـات مـن تلـك »القـوى«، وعـلى أي وجـه كان مواتهـا، وللتعريـف بمـا بقــي منهــا حيًــا، وعــلى أي وجــهٍ ينبــض ذلـك الباقـي بالحيـاة، ومـع الأمريـن، كيـف يُحتفـى بالحـي؟ ومتـى يُقـدم بالميـت واجبُ

العــزاء؟.. كل ذلــك، لأن الوقائــع الراهنــة، التــي عصفــت ببــلاد الاســتقلا­ل العربيــة، ومــا زالــت، تفصـح عـن تداخـل شـديد بـين اللهجتـين، الحيـة والميتـة، ومـا زالـت تُشـير إلى أن ولادة »اللغــة« الســوية مــا زالــت عصيــة عــلى الابتــكار، وأن مــا كان وحشــيًا ومعجمًــا ومقصيًــا مــن قامــوس اللغــة الأمُ، عــادَ ليكــون أمًُــا وحيــدة لــكل الكتابــات، مــا يجــوز معــه القــول إن الراهــنَ العاصــف يُكتــب بصقيــع المــاضي، وإن المســتقبل لــن

ينهــض مــن آنيــة الرمــاد.

 ?? ??
 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia