Al-Watan (Saudi)

كلمة السر روايات 1984 ومدينة بوهاين

- أبها: الوطن

نجــح بعــض الروايــات التــي كتبــت مســتشرفة مــا ســيحدث في المســتقبل في انتــزاع قيمتهــا الكبــيرة كروايــات مؤهلــة للخلــود؛ حيــث ركــزت عــلى مفهــوم الاســتباق أو الــسرد الاســتشرا­في الــذي يســبق زمــن الروايــة حســب مــا يـراه الدكتـور رفيـف رضـا صيـداوي، في مقالــة لــه منشــورة في دوريــة »أفــق«.

ويعتقــد صيــداوي أن للزمــن في الروايــة بنيــة خاصــة ضمــن بنائهــا العــام، وأن هنــاك روايــات كثــيرة عالميــة وعربيـة ارتكـزت عـلى الاسـتباق أو الـسرد الاســتشرا­في، أو اســتعارت زمنــاً مســتقبلياً تتفــاوت مُــدد بعُــده أو قربــه عــن الزمــن الوقائعــي أو زمــن الكتابــة.

وهــو يســتدل بمــا فعلــه الروائــي البريطانــ­ي جــورج أورويــل الــذي جعــل زمــن روايتــه »1984« بعيــداً زمنيــاً نحــو 35 عامــاً عــن زمــن الكتابــة (1949)، أو روايــة »مدينــة بوهايــن« )2011)، للكاتــب الإيرلنـدي كيفـن بـاري التـي تـدور أحداثها في العــام 2053 - 2054 الــذي يبعــد عــن زمــن الكتابــة نحــو 42 عامــاً. مــاذا عــن جــورج أورويــل وروايتــه الصــادرة منــذ أكثــر مــن 70 سـنة مـن الآن؟. مـاذا عـن المُسـتقبل الأسـود المظلـم لبـلاد يحكمهـا زعيــم أوحــد (الأخ الأكــبر)، حيــث أعضــاء الحــزب الحاكــم الذيــن يشــكلون نســبة 2 % مــن الســكان فقــط، يســتأثرون بحريــة غالبيـة الشـعب ويصـادرون مصـيره، ويمارسـون الرقابـة عـلى كل تفصيــل مــن تفاصيــل حيــاة أفــراده، إلى حــد التقــاط كل خاطــرة أو فكـرة أو تخييـل مـن أي نـوع كان، ويعملـون عـلى تزييـف وعـي النـاس إلى حـد إقناعهـم بشـعار الحـزب الحاكـم وصوابيتـه؟ مـاذا عــن شــعار الحــزب القائــم عــلى ثــلاث ثوابــت: ثابتــة أن »الحريــة هــي العبوديــة«/ وأن »الحــرب هــي الســلام«/ وأن »الجهــل هــو القـوة«، وعـن فلسـفة الحـزب والعالـم الـذي يريـدون خلقـه، ليغدوَ »النقيـض التـام ليوتوبيـا المدينـة الفاضلة التـي تصورهـا المصلحون الأقدمــون (...) لقــد زعمــت الحضــارات الغابــرة أنّهــا قامــت عــلى الحــب والعدالــة أمــا حضارتنــا فهــي قائمــة عــلى الكراهيــة، ففــي عالمنـا لا مـكان للعواطـف غـير الخـوف والغضـب والانتشـاء بالنصر وإذلال الــذات، وأي شيء خــلاف ذلــك ســندمره تدمــيراً«؟ إلى أي حــد يشــبه واقــع الروايــة الــذي اســتشرفه أورويــل واقعنــا الحــالي القائــم عــلى التضليــل والتزييــف والكراهيــ­ة؟ ومــاذا عــن الوســيلة الأساســية لهــذا القهــر المتمثلــة بالتكنولوج­يــا، بر والمُعــبَّر عنهـا فنيـاً في روايـة أورويـل بتـوزُّع شاشـات العـرض أو شاشـات المُراقبــة في مختلــف أنحــاء البــلاد، عــلى مــدار الســاعة، مــن دون تمييــز بــين الحيّــز العــام أو الخــاص، مُطــاولاً الشــقق الســكنية وأماكــن العمــل أو الأماكــن العامــة، فضــلاً عــن الميكروفون­ــات المزروعــة في الأمكنــة كلهــا؟ عربيــا، يــرى صيــداوي أن هنــاك روايــات عربيــة اســتشرافي­ة، لــم يلجــأ كتابهــا إلى الاســتباق أو الــسرد الاســتشرا­في كعنــصر أســاس في بنــاء خطابهــم، مثــل روايتــيْ »طواحــين بــيروت« )1969) للروائــي اللبنانــي توفيــق يوســف عــوّاد و»بــيروت 75« 1974)) للروائيــة الســورية اللبنانيــ­ة غــادة الســمان، و»ســتة أيــام« ()1961) للروائــي الســوري حليــم بــركات، مقابــل روايــات أخــرى اســتعار كُتّابهــا زمنــاً مســتقبلياً كامــلاً وســكنوا فيــه عــلى غــرار روايَتَــيْ «1984» و »مدينــة بوهايــن .« الروائــي اللبنانــي توفيــق يوســف عــوّاد اســتشرف في روايتــه »طواحـين بـيروت« الحـربَ اللبنانيّـة التـي اندلعـت عـام 1975؛ إذ ربــطَ ربطــاً فنيّــاً بــين العــادات والتقاليــ­د الباليــة الراســخة مــن مخلّفــات المــاضي مــن جهــة، وبــين البنيــة الاقتصاديـ­ـةالاجتماع­يــة الهشــة التــي تعتمــل بالتناقضــ­ات بــين الريــف والمدينــة، بــين الدولــة الحديثــة والدولــة الطائفيــة، بــين الأغنيــاء والفقــراء، بــين الدولــة المســتقلة والاعتــدا­ءات الإسرائيلي­ــة المتكــررة عــلى جنــوب لبنــان، بــين ينين النظــام الاقتصـادي اللبنانـي الحـر وثغـرات هـذا النظـام، ووازى فنيــاً بــين الحالــة النفســية لبطلتــه »تميمــة« وبــينينين بــيروت، حيــث إنّ كلتيهمــا، أي تميمــة وأرض الوطــن، اســتُبيح كيانُهمــا وجَســدهما، مــا أنَبــأ بانفجــار مــا، يــكاد يكــون حتميــاً، لا يــزال قائمــاً إلى الآن. أمــا كيفــن بــاري فيَســتشرف في »مدينــة بوهايــن« عالمنــا الرّاهــن بعـد أكثـر مـن عَقدَيْـن، فـيراه عالمـاً فاقـداً كل مـا يمـت والمدنيـة بصلـة. بـدا عالَمـاً أقـرب إلى البدائيـة الأولى، عنهـا في كونـه عـرف المدنيـة لكنـه فقدهـا: فسـاد المدينــة ونهرهــا. مياديــن صغــيرة وعفنــة وكريهــة عائــلات ومجموعــات وعصابــات متناحــرة. جرائــم شراء فتيــات صغــيرات. خمّــارات ومواخــير ومكاتــب

شـباب يدخّنـون الحشيشـة ويتكلمـون عـلى النسـاء ويتمرسـون في اسـتخدام الخناجـر.. هكـذا تتـوالى الأجيـال في بوهايــن. الخيــط الجامــع لهــذه الروايــات الاســتشرا­فية كلهــا، تعــدُّد أشــكال اســتخدامه­ا للزمــن، قائــم أساســاً، وقَبــل أي شيء آخــر، عــلى قــراءة مُعمَّقــة لزمانهــا وتخبطــات هــذا الزمــان. فالمســتقب­ل مرهــون بالمــاضي والحــاضر. وإذا مــا اكتســت هــذه النصــوص الروائيــة ســمة الخلــود، فذلــك لأنهــا نجحــت ببنــاء مجــاز كلي يتعــدى ثنائيــة الحقيقــة والمجــاز، مكتفيــة بخطابهــا الذاتـي الكاشـف عـن عـورات المـاضي والحـاضر مـن أجــل بنــاء مجتمعــات أفضــل، الإنســان فيهــا هــو الأســاس والمــآل والقيمــة العليــا. مثــل هــذه الروايــات الخالــدة تُحــذر، مــن دون الوقــوع في فــخ الابتــذال الأيديولوج­ــي أو الخــروج عــن معايــير الشــعرية الروائيــة، ممــا يمكــن أن يواجهـه المسـتقبل مـن تهديـدات ومخاطـر، سـواء أكانـت هــذه المخاطــر تخــص مجتمعــاً مــا أم العالــم بــأسره أم الإنســاني­ة جمعــاء.

 ?? ??
 ?? ??
 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia