Al-Watan (Saudi)

البوصلة التنويريّة »ليلى بعلبكي«.. أنشودةٌ إبداعيّة للتاريخ

- محمّد أبو العلا*

ذخــرٌ هائــل تحملــه سُــحبُ التاريــخ القديــم والحديــث، تتعــدّد خلالــه المواقــف والظواهــر والأفــكار والطرائــف الثقافيّــة المأســويّة، نمــاذج تتنافــس في درجــة البشــاعة، فمــن الحَجْــرِ عــلى الفكــر، إلى قتــلِ الإبــداع، وتبديــد المَلَــكات، إلى مُصـادَرة الرؤيـة والتشـدُّق بمسَـارِ منطـقٍ أحـاديّ لا يعـترف بغَـير ذاتـه، ويرمـي في الآن ذاتـه إلى إلصـاق الاتّهامـات الجزافيّـة بالآخـر الثائـر المتطلّـع للتجديـد والإضافــة والإثــراء الرّافــض للتقليــد والركــود والخنــوع الفكــريّ والثقــافيّ.

ولمّـا كانـت حركـةُ التاريـخ تتمحـور بـين التحـدّي والاسـتجاب­ة، فقـد سـحقتِ الاسـتجابةُ كلّ التحدّيـات التــي مارســتها ســلطاتُ القهــر الفكــري والمعنــوي عــلى الكتّــاب والأدبــاء والشــعراء والفلاســف­ة أحــدث الوقائــع التــي أثــارت الحديــث عــن هــذه القضيّــة بأبعادهــا كافّــة، هــو رحيــل الأديبــة الرياديّــة اللّبنانيّــة ليــلى بعلبكــي التــي كانــت في حياتهــا إحــدى ضحايــا مُجتمــع اســتلبَ كينونتَهــا وإنســانيّتَها وتآمــر عــلى ســحْقِ مَلَكاتِهــا الذاتيّــة المتفـرّدة حـين جَعَـلَ عُمرَهـا الروائـيّ عقـدًا واحـدًا، بينمــا امتــدَّ عمرُهــا الزمنــي نحــو تســعة عقــود؛ وهــذه هــي أبســط معانــي القمــع النفســاني والمعنــوي التــي عايشــت مأســاتها ليــلى بعلبكــي وأعمقهــا، وكان ثمنهــا العزلــة والانطــوا­ء والاكتئــا­ب والإحبــاط وطمْــس الموهبــة وتبديــد الطّاقــة والإطاحــة بالشــغف الكتابــي. وبالطبـع جـاء ذلـك كلّـه عـلى أثـر اتّهامهـا بخـدْشِ الحيـاء العـامّ، وتشـجيع الابتـذال، وإشـاعة الهبـوط الأخلاقــي، وهــي الذرائــع الهشّــة التــي قــادت إلى إحالتهــا للمُحاكَمــة والمُطالَبــة بســجْنها وتغريمهــا. وقـد أحَدثـت تلـك المُحاكمـة دويٍّـا هائـلًا في أوسـاط النّخبــة المثقّفــة داخــل لبنــان وخارجــه، وفي قلــب أوروبـا أيضًـا. ومـن هنـا فقـد صـارت روايتُهـا »أنا أحيــا« مــن أشــهر الروايــات العربيّــة عــلى الإطــلاق في نهايــات العقــد الخامــس مــن القــرن الفائــت، والتـي نقلَهـا إلى الفرنسـية الكاتـب الفرنـسي ميشـال باربـو؛ إذ كانـت الروايـة بمثابـة ثـورة تمـرُّدٍ عارمـة عــلى القيَــم الباليــة والثوابــت التــي لا لــزوم لهــا، ومثَّلــت بتمرُّدِهــا هــذا ثــورةً أخــرى عــلى الفــنّ الروائــي الكلاســيك­ي، وكذلــك عــلى الفــنّ الروائــي اللّبنانــي. وهــذا المَســار هــو نفســه الــذي تنطلــق منــه دائمًــا حــركاتُ التنويــر والتيّــارات التجديديّــة كافّــة، الفاعلــة في إحــداث التغيــير الــذي تســتوجبه اللّحظــة وليــدة الظــرف المجتمعــي. وذلــك كلّــه طَلَبًــا لإشــاعة مناخــات الحريّــة التــي تنبثــق عنهــا ســيادةُ الفضائــل العقليّــة والاعتصــا­م بالطموحــا­ت المسـتقبليّة. وهـو المسـار عَيْنـه الـذي اعتمدتـه ليـلى بعلبكــي حــين خطّــت روايتهــا »الآلهــة الممســوخة« كنَـوعٍ مـن الـردّ الحاسِـم عـلى النقّـاد الذيـن اعتَبروا روايـة »أنـا أحيـا« هـي بيضـة الديـك، بينمـا كانـت روائيّتُنــا تؤكِّــد أنّهــا تحمــل في جعبتهــا توجُّهًــا فكريٍّــا إبداعيٍّــا تُحــاول ترســيخ ملامحــه في العقــل الجمعــي. ولعــلّ مــن أغــرب الغرائــب أنّ مــا عاشــته ليـلى بعلبكـي مـن فظائـع، جَعَلَهـا تنسـحب مـن السـاحة الأدبيّـة والثقافيّـة. وهـو الأمـر الــذي يظــلّ حتّــى اللّحظــة يُحــرِّك لدينــا قضيّــة تحريــر الوعــي العربــي مــن أفُــق الأحاديّــة والدوغمائيّــة، بــل كلّ الآفــات الذهنيّــة المرتبطــة بذلــك، والتــي جعلــت مــن الســياق الحياتــي نمطًــا رجعيٍّــا. عملت في الأمانة العامة للمجلس النيابي اللبناني Bين سنتي 1957

و1960

من أهم الصحف التي عملت فيها: الحوادث، والدستور، والنهار، والأسبوع،

والعربي. يتجــلّى العديــد مــن التســاؤلا­ت المســتوجب­ة للطــرح منهــا: هــل كان انســحاب الروائيّــة بعلبكــي مــن الســاحة الأدبيّــة يمثِّـل نَوعًا من الاستسـلام لسـطوة التقوقُـع المجتمعـي؟ أم كان يمثّـل جـبروتَ أديبـة اكتفـت بتقديـم روايـة عاصفـة اسـتطاعت خلالهــا تحريــك العقــول والأنفــس والتوجُّهــات والــرؤى، تاركــةً أثــراً لا يُماثَــل، وتلــك هــي الغايــة المنشــودة لأيّ أديــبٍ أو كاتــب؟ وكيـف حقَّــق غيابُهـا طيلـة نصـف قــرن وجــودًا حيٍّـا حتّـى أنّهــا قـد صـارت رمـزًا تاريخيٍّـا؟ كيــف اســتقامَ لأديبــةٍ عربيّــة أن تنحــصر أعمالهــا في ثــلاث أيقونــات هـي »أنـا أحيـا«، »الآلهـة الممسـوخة« و»سـفينة حنـان إلى القمـر«، بينمـا امتـدَّت فضـاءاتُ شـهرتها إلى مديـاتٍ بعيـدة؟ وكيـف يُمكـن ترجمـة تلـك التناقضـات البـارزة بـين روايـة تُتَّهـم بالابتـذال والإسـفاف، وعـلى الجانـب الآخــر يكــون تأكيــد النقّــاد عــلى أنّ التأريــخ للروايــة العربيّــة النســائيّة لا يُمكـن أن يتجاهـل نتـاج ليـلى بعلبكـي؟ والعُلمــاء، وذابــت هــذه الســلطات مــع تصــارُع موجــات الزمــن، لكــن ظلّــت رايــاتُ الاســتجاب­ة خفّاقــةً متحدّيــةً أيّ تحــدٍّ يســتجدّ. لــذا لــم تَغِــب عــن صفحــات الذاكــرة الإنســانيّة أســماءٌ كثــيرة لهــا بصمــات نضاليّــة في المُعــترَك الفكــري، كان لهــا انعكاســاتٌ مبــاشرة عــلى أحــداث

أنا أحيا #واية، دار 1958

الإلهة الممسوخة

#واية، 1960

سفينة حنان إلى القمر - مجموعة قصصية، 1964 (تعرضت بسببها للمحاكمة بعد منعها في غير بلد عربي) تاريــخٍ صدامــي حافــل، لكنّــه كان هــو البوصلــة التنويريّــة في تاريــخ الثقافــة الإنســانيّة. ويتصــدّر بعــض هــؤلاء ســقراط، ابــن رشــد، أبــو حيّــان التوحيــدي، هيباتيــا، هاريــت بيتــشر، غــارودي، والشــاعر أوفيــد؛ وكذلــك دانتــي وجيمــس جويــس وغيرهــم كثــير ممَّــن أحَدثــوا تحــوّلاتٍ جذريّــة

في مَســار الفكــر والإبــداع. وكيــف اســتلهمَ النقّــادُ مــن مؤلّفاتهــا القليلــة كلّ هــذا الطوفــان مــن الـشروح والتفسـيرا­ت والتحليـلا­ت التـي تتجـاوز كثـيرًا أضعـاف مـا سـجَّلته الكاتبـة بعلبكـي مـن خواطـر وانطباعـات وأفـكار تحمـل رؤاهـا للعالَـم؟ وهـل تؤمِـن الأجيـالُ المقبلـة بقـوّة زلــزال الكلمــة عــبر الزمــن، ومــدى تأثيرهــا عــلى الأفــراد والجماعــا­ت والأنظمــة والشــعوب؟ إنّ البطولــة التــي مثّلتهــا ليــلى بعلبكــي في وجــه الطغيــان الفكــري، كانــت بالكلمــة التــي ارتــدّت إلى صــدر الســلطة التــي حاكمتهــا فحــين سُــئلت: لمــاذا تكتبــين بهــذه الطريقــة؟ اسـتنكرتْ قائلـة: أنـا أكتـب عـن البـشر وأحوالهـم في هـذا البلـد، وروايتـي لـم تَخـرج عـن تصويـر الواقـع بحذافـيره وتفصيلاتـه، فـإذا كان أمـرُ مُصـادَرة الروايـة حتميٍّـا، فـلا بـدّ مـن أن يُصـادَر البـشر قبلهـا، لأنّهـم مادّتهـا الثريّـة!! فبهـتَ الـذي ادّعـى، لكنّـه واصـلَ حماقاتـه المعهــودة لتســجِّل يــداه قصّــةً جديــدة في علاقــة الإبــداع والمعرفــة بالســلطة! ولعـلّ الذيـن يدقّقــون ويتفحّصــون البانورامـ­ا الروائيّـة لليـلى بعلبكــي يجـدون أنّ هنــاك تماســاتٍ واشــتباكا­تٍ مــع كاتبــاتٍ أخريــات، مــن حيــث المُنطلقــات العامّــة العائــدة في بعضهــا إلى قناعــاتٍ خاصّــة بمبــادىء مؤسَّســة عــلى حريّــة الفكــر، تلــك المُنتِجــة بالــضرورة لهــالات الإبــداع. وعــلى ذلــك يتجــلّى التلاحُــم الحيــويّ بــين ليــلى بعلبكــي وســيمون دي بوفــوار في كتابهــا »الجنــس الآخــر«، أو فرانســواز ســاغان في هواجســها وخيالاتهــ­ا، وامتــدادًا لذلــك كانــت البصمــة العتيــدة عــلى أعمــال فاطمــة المرنيــسي وأحــلام مســتغانمي... وغيرهــنّ كثــيرات. وإشـادةً بذاتهـا وبجيلِهـا، وأمـلًا في وضعِ حـدودٍ فاصلـة تحـول دون التفكير في السـيولة الزمنيّـة وتَمنـح كلَّ جيـلٍ اسـتقلاليّةً وخصوصيّـةً في إطـارِ التغـيّرات المتلاحقــ­ة ليُصبــح الحكــم المعيــاري عــلى الأجيــال نســبيٍّا لا مُطلقًــا، فــلا يُمكـن الحُكـم عـلى المـاضي بمقاييـس الحـاضر، ولا الحُكـم عـلى المسـتقبل بمعايـير الحـاضر، ولا بشرطيّـات المـاضي عـلى ظرفيّـات الحـاضر؛ ومـن ذلـك فقـد جـاءت صيحـة بعلبكـي المدوّيـة عـبر مُحـاضرةٍ مدوّيـة كان عنوانهــا »نحــن بــلا أقنعــة« حاولــت فيهــا أن تؤكّــد عُمــق الاعتــداد بشـخصيّة جيلهـا قائلـة: نحـن جيـلٌ جديـد يرفـض سـلطة الكبـار ويُطالِـب بحريّتـه ويسـعى للخـلاص مـن هَيْمنـة الكبـار مـن الآبـاء إلى الســلطة السياســيّة ونرفــض كذلــك القســمة بــين حاكــمٍ ومحكــوم، نرفــض القيَــم التــي لــم نُســهِم في وضعهــا، نرفــض القوانــين التــي صَنعــتِ القيــود، نحــن جيــل اليــوم.. يســمّوننا بالمتمرّديـن، الضائعـين، الشـاردين، الفوضويّـين،.. كلّ مـا عـلى الأرض لا يُمثِّلنــا ولا يرضينــا لأنّــه مــن صنْــع غيرنــا. والمتأمِّــل لهــذا الســياق يَستشــعرُ بتفــوُّق جيلهــا عــلى الأجيــال الغابــرة بينمــا الأجيــال اللّاحقــة يُمكــن لهــا ترديــد النــداءات نفسِــها المُشــيرة إلى التفــرُّد والألمعيّــة. فــلا أفضليّــة لجيــلٍ عــلى جيــل إلّا إذا كانــت الأجيــال الماضيــة قــد قــصَّرت في أداء أدوارهــا وانســحقت أمـام التحدّيـات الماثلـة أمامهـا؛ لكـنّ المتأمِّـل أيضًـا يُمكنــه أن يَستشــعرَ الوصايــا والســطوة نفســها لجيــلٍ عــلى جيــل إلّا في اســتثناءا­تٍ قليلــة حــين تَســتولي عليــه قيَــمُ التراجُــع تلــك التــي تجعلــه يُبــدِّد الفُــرص ولا يتحــيَّن الانطــلاق والفاعليّــة، وهـو مـا يحـول بالـضرورة نحـو تسـجيل وجـوده في الإطــار الزمنــيّ.

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia