Al-Watan (Saudi)

الفكر النهضويّ العربيّ بعيون المُستجِدّين

-

عــرفَ الفكــرُ العربــيّ منــذ الســبعينيّات مــن القــرن المــاضي مــا يشــبه الارتــداد إلى فكــر النهضــة العربيّــة، بحثــا فيفي هــذا الفكــر عــن حلــولٍ جاهــزة لأزماتنــا السياســيّة والاجتماعيّــة والفكريّــة الرّاهنــة، وتأويــل مقولاتــه تأويــلا مُعــاصِرا يَســتوعب التجــدُّد والرّاهــن، فتوالــت الأبحــاث والدراســا­ت في الأفــكار والمســائل التــي طرحهــا النهضويّــون، ِ وصــدرتِ الأعمــال الكاملــة لرفاعــة الطهطــاوي ومحمّــد عبــده وأحمــد فــارس الشــدياق وجمــال الدّيــن الأفغانــي وعــلي مبــارك ورشــيد رضــا، بالإضافــة إلى بعــض كتابــات فــرح أنطــون وأديــب إســحق وخــير الدّيــن التونــسي.

لكــنّ القــراءات المُعــاصِرة لفكــر النهضــة العربيّــة ســحبت تصــوُّرات معــاصرة عــلى تلــك المرحلــة مــن تطــوُّر الفكــر التاريخـي العربـي، وجـاء اسـتخدامها في الغالـب لدعْـمِ أفـكارٍ أيديولوجيّـة راهنـة وتبريرهـا، فـكان مـن نتائـج مثـل هـذه القـراءات، فضـلا عـن الإجحـاف الـذي ألحقتـه بالرؤيـة الإصلاحيّـة العقلانيّـة لفكـر النهضـة، تقديـم صـورة غـير دقيقـة، وأحيانـا شـوهاء، لمقاصـد النهضويّـين وأهدافهـم الحقيقيّـة. في مقدّمــة المســائل التــي تمثِّــل أنموذجــا لهــذا الإشــكال مســألة الاشــتراك­يّة في الفكــر النهضــوي، فهــل تطــرَّق النهضويّــون إلى هــذه المســألة؟ وهــل كانــت فعــلا في أجنــدة اهتماماتهـ­ـم وأولويّاتهــم؟ في هــذا الســياق الإشــكالي رأى حســين فــوزي النجّــار في سلســلة »أعــلام العــرب« أنّ فكــر الطهطــاوي »ينــمّ عــن اتّجـاهٍ واضـحٍ نحـو الاشـتراكيّة«، ورأى رفعـت السـعيد أنّ الطهطـاوي »عـاش سـنوات يَختـزن أفـكاره الاشـتراكيّة في قلبــه، حتّــى جهــرَ بدعوتهــا ســنة 1869«. أمّــا لويــس عــوض، فقــد مــالَ إلى الاعتقــاد بــأنّ »الرجــل ربّمــا ذهــبَ مذهــب الاشــتراك­يّين المُعتدلــين«. لكـنّ كلّ هـذه الاجتهـادا­ت والتأويـلا­ت لا تتطابـق البتّـة مـع أفـكار الطهطـاوي وأهدافـه الحقيقيّـة، فالاشـتراك­يّة، التـي تعنـي الملكيّـة العامّـة لوسـائل الإنتـاج والمُسـاواة الاجتماعيّـة الكاملـة بـين جميـع أفـراد المجتمـع، تتناقـض مـع مـا يدعـو إليـه الطهطـاوي، وهـو المسـاواة السياسـيّة فقـط، أي التسـوية بـين المواطنـين أمـام القانـون وفي إجـراء الأحـكام، ولـم يخطـر ببالـه أن تكـون المسـاواةُ اجتماعيّـة واقتصاديّـة. وقـد عـبَّر عـن مقاصـده هـذه في كتابـه »تخليــص الإبريــز في تلخيــص باريــز«، حيــث أوضــح أنّ مــا يدعــو إليــه هــو »المُســاواة قــدّام الشريعــة، والعــدل في الأحـكام والقوانـين، بحيـث لا يجـور الحاكـم عـلى إنسـان«. أمّـا مـا عـدا ذلـك فالنـاس عنـده متباينـون في الصفـات الطبيعيّـة، »وقـد فضّـل اللـه بعضهـم عـلى بعـض في الـرّزق«، الأمـر الـذي يُسـقِط القـول باشـتراكيّة الطهطـاوي. في السـياق التأويـلي إيّـاه، ذَهَـبَ سـامي الكيّـالي إلى أنّ فرنسـيس المـرّاش »ذو نزعـة اشـتراكيّة«، واسـتنتَج عمـاد الصلح في »الشـدياق.. آثـاره وعـصره« أنّ الشـدياق »لـه شـطحات ثوريّـة فكريّـة تَصِـلُ إلى حـدود الثـورة الاشـتراكيّة«. واعتـبرَ فــوّاز طرابلــسي وعزيــز العظمــة في التقديــم للأعمــال المجهولــة لأحمــد فــارس الشــدياق أنّ »الشــدياق أوّل عربــي يَعتنــق المذهــب الاشــتراك­ي، ويذهــب بــه إلى أبعــد حــدود الالتــزام«، مــن دون أن يُلاحِظــا مــا وَرَدَ في هــذه الأعمــال بالـذّات مـن شـجْبٍ للمبـادئ الاشـتراكيّة، حيـث علَّـق الشـدياق عـلى كومونـة باريـس الاشـتراكيّة 1871 بقولـه عـن الكومونيّـين: »كنـتُ مـن أشـدّ المُنكريـن عـلى هـؤلاء العتـاة تواطؤهـم عـلى مشـاركة الأغنيـاء في أموالهـم«. كمـا انتقـدَ مذهــب الحــزب الاشــتراك­ي الــذي »كاد يــسري في هــذه الأيّــام إلى أحــزابٍ كثــيرة مــن أولي الصنائــع والحِــرف، فإنّهــم كلّمـا تبطَّلـوا عـن العمـل قـامَ في خاطرهـم أنّـه يجـب عـلى الأغنيـاء أن يموّلوهـم وعيالهـم«. الحقيقـة أنّ فكـرة الاشـتراكيّة كانـت غريبـة عـن ذهنيّـة نهضويّـي القـرن التّاسـع عـشر، وهـي لـم تَدخـل في نسـيجِ الفكــر العربــيّ إلّا مــع بدايــة القــرن العشريــن. ولــم يكُــن المــرّاش والشــدياق وإســحق مــن القائلــين بالمســاوا­تيّة الاجتماعيّـة عـلى الرّغـم ممّـا كانـوا يبدونـه مـن عطـفٍ عـلى الفقـراء وإدانـةٍ للظلـم اللّاحـق بهـم، بـل إنّ المـرّاش أدَان بشـدّة كومونـة باريـس، ونَظَـرَ إلى الحـركات الشـعبيّة في عـصره باعتبارهـا فِتنـةً لا ثـورة. وفي فكرنــا النهضــوي ثمّــة اســتنتاجا­ت بشــأن القوميّــة لا تتّفــق مــع حقيقــة تفكــير النهضويّــين وتطلُّعاتهـم، حيـث رأى الجابـري في »الدّيـن والدولـة وتطبيـق الشريعـة« أنّ شـعار العلمانيّـة طَرَحَـهُ مســيحيّون مــن الشــام في ارتبــاطٍ عضــويّ مــع شــعار الاســتقلا­ل عــن الــتُّرك. مـن هنـا كمـا تصـوَّر الجابـري، ارتبطـتِ النهضـةُ في ذِهـنِ بطـرس البسـتاني، كمـا في أذهـان مفكّرين عـرب آخريـن، والمسـيحيّين منهـم بشـكلٍ خـاصّ، بالاسـتقلا­ل عـن الـتُّرك، مـا يعنـي الانفصـالَ عـن الخلافـة، وتاليـا فصـلَ الدّيـن عـن الدولـة. إلّا أنّ هـذه القـراءة للعلمانيّـة في الفكـر النهضـوي تشـكِّل رؤيّـةً أيديولوجيّـةً واهِمـة لحقيقـة الاتّجاهـات النهضويّـة وآليّـة التفكـير النهضـوي، فالقول إنّ شـعار العلمانيّـة طُـرِح بالارتبـاط مـع شـعار الاسـتقلال عـن الـتُّرك مُغايِـر للواقـع. صحيـح أنّ مسـيحيّي الشـامّ هُـم أوّل مَـن طَـرَحَ شِـعار العلمانيّـة (الشـدياق، والبسـتاني، والمـرّاش، وأنطـون)، لكـن ليـس صحيحـا ولا واقعيـا ربْـط هـذا الشـعار بأيّـة خلفيّـة قوميّـة؛ إذ لـم تكُـن القوميّـة العربيّـة قـد وُجدت بعـد، وعندمـا وُجـدت لـم تكُـن ذات تصـوُّرٍ علمانـي، ولـم تكُـن هنـاك صلـة بـين القوميّـة العربيّـة وبـين الطوائـف عـلى نحـوٍ ضروري.

 ?? ??
 ?? ??
 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia