رقاقات إلكترونية تتحكم بمصير العالم
لعلــه عــصر أشــباه الموصــلات. التعبــير أصبــح مــن الأكثــر تــردادًا في الأوســاط العلميــة وأنديــة الصناعــات الدقيقــة المتقدمــة. وهــو يشــير إلى رقاقــة صغــيرة يجــري تركيبهــا في الآلــة (كمبيوتــر أو صــاروخ أو طائــرة حربيــة أو هاتــف محمــول...) في ســبيل تشــغيل الجهــاز. مــن خصائصهــا أنهــا لا توصِــل التيــار الكهربائــي بقدرتــه ذاتهــا، بــل بالقــدرة التــي يتطلبهــا الصانِــع. فالرقاقــة شــبه الموصلــة يُمكــن التحكــم بموصليتهــا، أي بمقــدار مــا توصلــه مــن التيــار.
وللتوضيــح أكثــر، فالمعــروف أنــه في ميــدان الكهربــاء، هنــاك مــواد موصِلــة للتيــار، كالمعــادن عــلى أنواعهــا، وجســم الإنســان. وهنــاك مــواد غــير موصِلــة تمامًــا أو ذات موصليــة يُمكــن التحكــم بطاقــة التيــار الكهربائــي الــذي يُمــرر فيهــا، وتكــون بالتــالي »شــبه موصلــة«، مثــل الســيليكون، والســيراميك، والفحــم، والبلــورات الاصطناعيــة، والعنــبر. وهنــاك ثالثًــا مــواد عازلــة تمامًــا لا توصــل تحتــل هــذه التقنيــة موقــع الصــدارة في الصناعــات الحديثــة ولا غنـى عنهـا لتصنيع جميـع المُنتجـات الإلكترونيـة. فالرقاقـة Wafar هـي شريحـة صغـيرة جـدًا مـن مـادة نصـف موصلـة (مثـل بلورة أحاديـة مـن السـيليكون النقـي المُسـتخرَج مـن الرمـال) تُسـتعمَل لتصنيـع الدوائـر أو »الـدارات« المُتكاملـة والأجهـزة الميكرويـة التـي لا غنــى عنهــا لتصنيــع جميــع المنتجــات الإلكترونيــة، وهــي أغــلى مُنتجـات السـيليكون وأكثرهـا تعقيـدًا. جـرى تطويـر هـذه الصناعـة في أواخـر الخمسـينيات مـن القـرن المـاضي، بفضـل جهـود كل مـن »جـاك كيلبـي« و»روبـرت نويـس« (يحمــل »كيلبــي« بــراءات أكثــر مــن 60 اختراعًــا. أمــا »نويــس« فيملــك 16 بــراءة اخــتراع باســمه). التحكــم في تصنيــع أشــباه الموصــلات هــو بأهميــة التحكــم بإمــدادات النفــط في القــرن الـــعشرين. ويُمكــن للدولــة التــي تُســيطِر عــلى هــذا التصنيــع أن تُســيطِر أيضًــا عــلى (وحتــى أن تخنــق) مختلــف الصناعــات الحديثـة، وبالتـالي القـوى العسـكرية والاقتصاديـة والجيوسياسـية للــدول، باعتبــار أن مَــن يتحكــم بإنتاجهــا ســوف يحــدد مَســار القــرن الحــادي والعشريــن. لـذا مـن البديهـي أن يشـتد التنافُـس عليهـا، حتـى أن الحـرب بـين الـدول الصانعـة والمـوردة لهـا، لا بـد لهـا إن قامـت، أن تقـوم، عـلى خلفيـة هـذه التقنيـة والتحكـم بها. الســؤال الأبــرز المطــروح يــدور حــول أهميــة الرقائــق مــن جهــة، ومــبرر المخــاوف المُتصاعِــدة مــن انــدلاع حــرب بــاردة جديــدة (تحمــل بــذور تحولهــا إلى حــرب ســاخنة) بســببها، بــين الغـرب والـشرق، وتحديـدًا بـين الولايـات المتحـدة الأمريكيــة والصــين بشــأن تايــوان. لكن... وتتسـاءل مجلـة »ذي أتلانتيـك« الأمريكيـة »لمـاذا قــد تُحــارِب واشــنطن مــن أجــل تايــوان كأنهــا ولايــة أمريكيــة؟ ومــا الــذي يدفــع الولايــات المتحــدة إلى خَــوْضِ حــربٍ مــن أجــل حمايــة جزيــرة صغــيرة تقــوم عــلى بُعــدِ آلافِ الأميــال مــن حدودهــا؟« كل شيء يبتدئ من الرقاقات الإلكترونية. كانــت ســيطرة تايــوان عــلى صناعــة هــذه الرقاقــات بمنزلــة هِبــة ونِعمــة للاقتصــاد التايوانــي. بيــد أنهــا صــارت تشــكل فيمــا بعــد تحديًــا حقيقيًــا لســلامة الجزيــرة وأمنهــا وشــبه اســتقلالها. فالولايــات المتحــدة الأمريكيــة ومعهــا الغـرب الأوروبـي، لا يسـتغنيان عـن هـذا المصـدر الميســور والموثــوق للرقائــق الإلكترونيــة التــي باتـت عمـاد التكنولوجيـا الحديثـة. لكـن تايـوان التــي تُنتــج معظــم الرقاقــات في العالَــم، ليســت أكثــر مــن بلــد صغــير.. ولا يَبعــد أكثــر مــن مائــة ميــل عــن الــبر الصينــي الرئيــس، بحيــث يَنظــر إليهــا العمــلاق الأصفــر نظــرةَ أبــوة ولــو بالإكـراه، ويعتبرهـا منطقـة انفصاليـة تقـع عـلى عاتقـه مهمـة إرجاعهـا إلى بيـت الطاعـة. وسـبق للرئيــس الصينــي »شي جــين بينــغ« أن أعَلــن الكهربــاء مثــل الخشــب. ومعــروف موصليــة المــادة.
في التوصيـف فالرقائـق الإلكترونيـة، أي أشـباه الموصـلات، هـي دوائـر كهربائيـة دقيقـة Microcircuit)( تُغلـف بمـادة مـن البلاسـتيك البلالاسـتيك أو الخـزف، وتحتـوي عـلى عـددٍ مـن الترانزسـتورات ومكثفـات التيـار الكهربائـي أو المقاومـات أو المحرضـات لـه (بحسـب الطلـب)، تقـوم بوظائـف منطقيـة رقميـة، يتـم مـن خلالهـا تشـغيل الأجهــزة الإلكترونيــة والتحكــم بهــا، فضــلًا عــن أنهــا أســاسسووعلــة مــا بــات يُسـمى بالـذكاء الاصطناعـي في أجيالـه الأكثـر حداثـةً ودقـة. تُعتـبربربر تايـوان ون المصدر العالَمــي الأهــم والأبــرز لإنتاجهــا. ومــن هنــا مشــكلة هــذه الجزيــرة والتنافُــسوالتنافــس المُلتهــب عليهــا بــين واشــنطن وبكــين، والحديــث المتصاعــد المُتصاعــدعــن التــأزم بشــأنها بــين الغــرب والــشرق. تمثــل الرقائــق الإلكترونيــة مفتــاح التحكــم بجميــع الأجهــزة الإلكترونيــة والتقنيــات المتقدمــة، مــن الســيارة والطائــرة والقمــر الصناعــي، إلى الهاتــف وآلــة الحلاقــة وكل الأجهــزة المتصلـة بالإنترنـت، بمـا فيهـا الأجهـزة الذكيـة القابلـة للارتـداء، والإلكترونيـات الاسـتهلاكية، وكل أنظمـة الأسـلحة التـي بُنيـت في القـرن الــ21، مثـل نظـام الصواريـخ عاليـة الحركـة »هيمارس« HIMARS)( والطائـرات المُسـيرة والذخائـر والصواريـخ المضـادة للدبابــات والألغــام البحريــة، كذلــك تُســتخدم في مياديــن الطــب لتشــخيصٍ أسرع وأضمــن للسرطــان والأمــراض الأخـرى. وتشـكل الرقاقـة المكـون الأسـاس لجهاز الكمبيوتــر، المعــروف باســم المُعالِــج الدقيــق والذاكــرة الإلكترونيــة. أن »توحيــد الصــين مــع تايــوان هــو حتميــة تاريخيــة«. مــن هنــا فالــصراع الحــالي عــلى تايــوان (بــين واشــنطن وبكــين ومعهــا روســيا) هــو أكــبر مــن مجــرد رغبــة صينيــة في ضــم تايــوان إلى الــبر الرئيــس، أو رغبــة غربيــة بالســلام مــن خــلال منْــع الصــين مــن غــزو تايــوان. فجــذور هــذا الــصراع المُتفاقِــم تتجــلى في مجــال صناعــة الرقائـق المتقدمـة الـذي يشـكل الأسـاس الحقيقي لأي مُواجَهـة مُحتمَلـة، ولا سـيما أن الانقطـاع لمـدة عـامٍ واحـد في توريـد الرقائـق التايوانيـة وحدهـا، سـيكلف شركات التكنولوجيـا العالَميـة نحـو 600 مليــار دولار، وفقًــا لتحليــل »مجموعــة بوســطن للاستشــارات« Boston Consulting Group) .( وقــد أفــلَ ذلــك الزمــن حــين كانــت أمريــكا في مقدمــة صانعــي أسرع الرقائــق عــلى المســتوى العالَمـي. فتراجَعـت خـلال العقـود الأخـيرة بفعـل المُنافَســة الصاعــدة مــن قِبَــلِ تايــوان والصــين وروســيا وكوريــا الجنوبيــة وأوروبــا، وتآكلــت حصتهــا في تصنيــع أشــباه الموصــلات وإنتاجهــا مـن 37 % مـن الإنتـاج العالَمـي في العـام 1990، إلى %12 فقــط في عــام 2020، بحســب بيانــات نَشَرَهــا موقــع »أكســيوس« الأمريكــي. هــذا مــا أسَــهم ليــس في نقْــص الرقائــق عالَميًــا فقــط، بــل في حــربٍ بــاردة جديــدة مــع القــوى العالَميــة الأخــرى التــي تعمــل جاهــدةً لســد الفجــوة. وكان مــن الطبيعــي أن تتضاعــف أهميــة تايــوان (والخطــر المحــدق بهــا) عــلى هــذا المســتوى، وهــي توفــر %55 مــن الرقائــق
أن كثافــة التيــار
الكهربائــي ترتفــع بزيــادةِ الإلكترونيــة عالَميًــا، مــن ضمنهــا 84 % مــن الرقائـق فائقـة التقـدم. وتُعتـبر تايـوان، بحسـب »نيويـورك تايمـز«، أهـم صانـع للرقائـق ومـزود بهــا، وقــد احتلــت الصــدارة في الســباق لصنْــع الشرائــح أو أشــباه الموصــلات الأقــل ســماكةً والأسرع والأقــوى، والتــي تعمــل عــلى تشــغيل »إنترنــت الأشــياء« في أجيالهــا الحديثــة التــي يجـري تنشـيطها عـبر شـبكات الجيـل الخامـس. ويتعــين عــلى أي دولــة تتطلــع إلى الهَيْمَنــة عــلى المسـتقبل الرقمـي، الحصـول عـلى هـذه الرقائـق فائقــة السرعــة وفائقــة النحافــة. وفي ســياق المُنافَســة الأمريكيــة – الصينيــة عــلى الرقائــق وعــلى تايــوان، لــم يعُــد مــن اليســير تحديــد القــوة العظمــى المســيطرة. فالصــين مــا زالــت تعتمــد بشــكلٍ أكــبر عــلى الــواردات والتكنولوجيــا الأجنبيــة، التايوانيــة أولًا، بينمــا الولايـات المتحـدة تسـتثمر بشـكلٍ أقـل في الإنتـاج المحــلي، في حــين أن مصنــع أريزونــا (الوحيــد في البــلاد) ليــس كبــيرًا بمــا يكفــي لســد الحاجــة الأمريكيــة. لمــاذا لا تصنــع أمريــكا أو الصــين الموصــلات أو الرقائــق بنفســها؟ تبلــغ تكلفــة بنــاء مصنــع رقائــق كبــير مــا يزيــد عــن تكلفــة بنــاء حاملــة طائــرات مــن الجيــل المســتقبلي، أو أكثــر مــن بنــاء محطــة طاقـة نوويـة حديثـة. أضـف كلفـة اليـد العاملـة المحليـة الأعـلى بكثـير منهـا في مناطـق شرق آسـيا. وهـذا يشـكل عبئًـا ضخمًـا عـلى الولايـات المتحـدة الأمريكيــة والصــين الغارقتَــيْن أكثــر فأكثــر في
أشــباه مطبــات الهجــوم الــروسي عــلى أوكرانيــا. لهــذا تُفضــل الولايــات المتحــدة والصــين كلاهمــا الاعتمـاد عـلى شركات طـرف ثالـث تملـك بالفعـل مصانــع جاهــزة وقــادرة عــلى تلبيــة احتياجــات كل منهمــا مــن الرقائــق المتقدمــة. مــع ملاحظــة أن هَيْمَنــة تايــوان في تصنيــع أشــباه الموصــلات، تلعــب دَورًا حيويًــا في ردْعِ أي غــزو صينــي مُحتمَــل للجزيــرة. وماذا إذا غَزَتِ الصين تايوان؟ لــو غامَــرت الصــين باقتحــام »درع الســيليكون التايوانــي« وغَــزَتِ الجزيــرة لإعــادة ضمهــا إلى الــبر الرئيــسي، فهنــاك احتمــالان مــن المُمكــن توقعهمـا: الأول وقـوع مصانـع الرقائـق التايوانية تحــت ســيطرة الصــين، مــا يعنــي تحكُــم بكــين بتصنيــع هــذه الصناعــة الحيويــة التــي لا غنــى للغــرب عنهــا وتوريدهــا. وهــذا خــط أحمــر بالنســبة إلى أمريــكا. والثانــي أن تُدمــر هــذه المصانــع في خضــم الــصراع الناشــب، مــا يعنــي أزمـةً عالميـة هائلـة لـم يشـهد العالَـم مثيـلًا لهـا بعــد. وهــذا بالنســبة إلى الصــين كمَــن يُطلــق الرصاصـة في رأسـه. لكـن المرجـح في حـال إقـدام الصــين عــلى غــزو تايــوان، أن تُحيــد مصانــع الرقائــق، لعــدم الاســتغناء عنهــا، خاصــة أن صعـود تقنيـة الجيـل الخامـس يـؤدي إلى زيـادة الطلــب عليهــا. مـن هنـا تقاطُـع إنتـاج وتوريـد أشـباه الموصلات مـع الجغرافيـا السياسـية، ومـن هنـا أيضًا نشـوء الســبب الحقيقــي للــصراع الدائـر بــين واشــنطن ومعهـا الغـرب، وبكـين وحلفائهـا في الـشرق.
*كاتب من لبنان * ينشر بالتزامن مع دورية أفق