Al-Watan (Saudi)

جورج جرداق والعشق على طريقته

- عبدالحسين شعبان مقهى الحاج داوود مدرسة العشق خماسية جرداق هذه ليلتي

عــام 2003، وكان آخــر لقــاء بيننــا في عــام 2010، حيــث أهديتــه كتابــي »الجواهــري.. جــدل الشــعر والحيــاة« الــذي صــدر عــن دار الآداب، وبعدمـا تصفحـه قـال لي: سـألتهمه التهامًــا، مُبديًــا إعجابــه الكبــير بالجواهــر­ي. وكَــم كان حزينًــا في آخــر لقــاء لي معــه لِمــا حـل بالعـراق وأهلـه، وخصوصًـا بُعيـد صعـود المَوجــة الطائفيــة المُقترِنــة بالاحتــلا­ل الأمريكــي وتفــشي النزعــات التكفيريــ­ة وشــيوع مظاهــر جديــدة مــن الإرهــاب ارتباطًــا بتنظيمــات القاعــدة حينهــا.

أتذكـر أننـي في إحـدى المـرات دعوتــه عــلى العشــاء، وكانــت برفقتـه مسـاعدته الحسـناء، في مطعــم »مقهــى الحــاج داوود« الشــهير في عَــين المريســة في بــيروت، والــذي تغــير اســمه إلى » ا لد ر ونــدي « ، وهــو المقهــى المشــهور بتقديــم وجبــات الســمك اللذيــذ، الــذي كنــتُ قــد تعرفــتُ عليــه في أوائــل الســتينيا­ت مــن القــرن المــاضي مــع أخـوالي جليـل ورؤوف ونـاصر شـعبان، وقـد فاجأنـي بأنــه نباتــي، وقــال إنــه يســتغرب ممــن يأكلــون لحــوم الحيوانــا­ت، وكيــف تعطيهــم أنفســهم فعــل ذلـك، وكان العديـد مـن رواد المطعـم يختلسـون النظـر إليــه، وجــاءت إحــدى الفتيــات الجميــلات لتســتأذن منــه بالتقــاط صــورة معــه، وبعــد موافقتــه، دعــت أحـد المصوريـن الجوالـين ليقـوم بذلـك، وقـد اسـتدعى مسـاعدته ليلتقـطَ معهـا، ومـع الفتـاة التـي اقتحمـت مائدتنــا، صــورةً أخــرى.

قلــتُ لــه هــل أنــت عاشــقٌ؟ أجــاب: العشــق تولــه وهيـام وصبابـة، فأنـا أعيـش بـين عشـقي وكُتبـي، ولا أسـتطيع التفريـق بينهمـا، فهُمـا مُتلازمـان ومُترابطـان عضويــا، وأضــاف: العشــق حالــة إنســانية مَــن لــم يجربهـا، فهـو لـم يتعـرف بعـد عـلى طعْـم الحيـاة.

وهــل المــرأة مُلهمتــكَ؟ ســألته، فقــال المــرأة ليســت بالـضرورة مُلهِمـة للإبـداع، فليـس في أشـعار شكسـبير أي أثــرٍ لهــا، ولا في ســمفونيات بيتهوفــن أو منحوتــات مايـكل أنجلـو أو غيرهـم مـن كبـار المُبدعـين.

قلـتُ لـه أيـن تضـع كتابـكَ الأول »فاغنـر والمـرأة«،؟ فقـال لي اعتبرتـه سـيرة قصصيـة في بدايـات كتاباتـي، انطلاقًــا مــن رؤيــة وحــدة الفــن بجميــع جوانبــه وأشــكاله. وبالمناســ­بة، فقــد عرفــتُ مــن خــلال متابعاتـي وقراءاتـي أن طـه حسـين أدَرج هـذا الكتـاب مـن ضمـن لائحـة الكُتـب المقـرر قراءتهـا عـلى طلبـة الدكتــورا­ه في الأدب بدقــة وإمعــان. وكانــت كُتبــه قــد تُرجمــت إلى العديــد مــن اللغــات بينهــا الألمانيــ­ة والفرنســي­ة والإســبان­ية والفارســي­ة والأورديــ­ة.

ربمــا كان العشــق الحقيقــي لجــرداق قــد تملكــه بحُــب الإمــام عــلي، بمــا فيــه مــن فضائــل إنســانية ومناقـب شـخصية ومعـانٍ سـامية مثلـت بالنسـبة إليه شـعاعًا للقيَـم ونبراسًـا للمُثـل، فقـد وقـفَ معـه عنـد ديـنِ الرحمـة والعدالـة والإنسـاني­ة والحيـاة، وهـو مـا وجــده بصورتــه الأصفــى والأنقــى والأبهــى.

كنـتُ قـد ذكـرتُ في أكثـر مـن مناسـبة أننـي كنـتُ مُهتمــا في فــترة الفتــوة بمُتابعــة ســيرة الإمــام عــلي، مثلمــا هــو اهتمامــي بالأفــكار اليســارية والتقدميــ­ة الحديثــة، واطلعــتُ حينهــا عــلى »نهــج البلاغــة« وقــرأتُ فصــولًا منــه، ولكــن مــا اســتوقفني عــلى نحــوٍ لافــتٍ للتفكــر والتأمــل والاســتشر­اف، مــا كَتبــه جــورج جــرداق في موســوعته الخماســية، وذلــك في أواخــر ســتينيات القــرن المــاضي، وكان بعنــوان »الإمــام عــلي... صــوت العدالــة الإنســاني­ة«، قــال: »عــلي وحقــوق الإنســان« و»عــلي والثــورة الفرنســية« و»عــلي وســقراط« و»عــلي وعــصره« و»عــلي والقوميــة العربيــة«؛ وأضــاف إليهــا مؤلفًــا سادسًــا بعنــوان: »روائـع نهـج البلاغـة«. وكانـت حـين صدورهـا حَدَثًـا كبــيرًا شــديد الرقــي، مَنهجًــا وأســلوبًا وتوجهًــا، وإن اختلفــت بعــض وجهــات النظــر بشــأنها، وخصوصًــا مقاربتهـا لعـددٍ مـن فلاسـفة الثـورة الفرنسـية الكبـار مثـل: روسـو ومونتسـكيو وفولتـير، والفلسـفة عمومًـا ابتــداءً مــن ســقراط أبــي الفلاســفة، ناهيــك بــروح العــصر واســتلهام­اته في تأكيــد الســياق التاريخــي، وتســليط ضــوء عــلى اعتــزاز الإمــام عــلي بأرومتــه وانتمائــه ولغتــه، ناهيــك ببعــض »جواهــره« التــي وَرَدَتْ في »نهــج البلاغــة«.

والــشيء بالــشيء يُذكــر، فــأود هنــا أن أشــير إلى ثلاثـة كتـب مرجعيـة إشـكالية مُهمـة تناولَـتْ فصـولًا مــن التاريــخ الإســلامي، أولهــا، كتــاب »اليســار واليمـين في الإسـلام« لأحمـد عبـاس صالـح الـذي قرأت حلقــات منــه نُــشرت في مجلــة »الكاتــب« )المصريــة) التــي كان يــرأس التحريــر فيهــا، وذلــك في أواســط ســتينيات القــرن المــاضي، ثــم صَــدرت لاحقًــا بكتــابٍ بالعنـوان ذاتـه، وثانيهـا، كتـاب: »عـلي إمـام المُتقـين« لعبدالرحمـ­ـن الشرقــاوي الــذي قرأتــه في عــام 1986، وثالثهـا، كتـاب »عـلي: سـلطة الحـق« لمؤلفـه المغـدور عزيــز الســيد جاســم (1987.(

قلــتُ لجــرداق لقــد اتهمــتَ بالشــعوبي­ة، وهــو مــا قرأتــه، قــال ولذلــك كتبــتُ »عــلي والقوميــة العربيــة«، وهــي مُرافَعــة للدفــاع عنــه وعنــي، وهــي دعــوة للاعــتراف بالآخــر خــارج دوائــر العرقيــة والفئويــة والطوائفيـ­ـة والدينيــة والأيديولو­جيــة، فقــد امتــاز عــلي بصفــاتٍ عربيــة وإنســانية أصيلــة كحــب الخــير ومســاعدة المظلــوم والعــدل والإنصــاف والمــروءة والشــجاعة والحكمــة.

وسـألته عـن مـنمَـن يحـاوليُحـاول إطفـاء صـورة الصحابـة الآخريــن بإضفــاء صفــاتٍ أقــرب إلى الربوبيــة عــلى الإمــام عــلي، فقــال الإمــام عــلي بــشرٌ مثــل ســائر خلْـق اللـه، لكـن قدرتـه في خلْـق يٍٍ وعـيٍبٍٍِ عابـرٍلِمـا هـو قائـم تُعطيـه بعـض المزايـا، وهـي التـي تجعـل منـه إنسـانًا كَونيـا، فحديثـه عـن »الفقـر في الوطـن غربـة« يتمثــل في رؤيــة مســتقبلية اجتماعيــة عميقــة. كمــا أن في تســامحه ردا عــلى أولئــك الذيــن يتهمــون العــرب والمُســلمين بأنهــم غــلاظ القلــوب وقُســاة ومتوحشــون وبرابــرة، ودينهــم يحــض عــلى ذلــك، فحــين ضربــه بالسـيف عبدالرحمـن بـن ملجـم، قـال كلمتـه الشـهيرة آنـذاك: إنْ عشـت فأمـره لي، وإن مـت فضربـة بضربـة، وهــو مــا دعــاه لاســتذكار الســيد المســيح عيــسى بــن مريـم الـذي تَمْتَـمَ بعبـارات الاسـتغفار والترحـم لِمَـن يعلقونــه عــلى الصليــب قبــل صعــوده إلى الســماء.

وقــد تنــاول المــؤرخُ اللبنانــي الكبــير حســن الأمــين كتــابَ صديقــه جــورج جــرداق عــن الإمــام عــلي بقولـه إنـه وَضَـعَـعَع جــرداق في قمــة أدبــاء العربيــة، وهــو بيــانٌ متدفــق أصيــل كَشَــفَ عــن ٍ كنــوزٍخبيئــة.

وحــين تن ســألَتنيقن اة »قنــاةالفض­ائة الفضائيــة­الاق ة العراقيــة«: لمــاذا لــم يَكتــب جــرداق عــن الحســين؟ كان جوابــي كمــا ســمعته منــه، أن الحســين كان عــلى خطــى أبيــه في الدفــاع عــن الحــق والعــدل، وهــو يمثــل رمزيــةً جهاديــةً شــجاعة، وبمــا معنــاه »هــذا الشــبل مــن ذاك الأســد«، فعــلي كان مشــكاة للفلســفة والحكمــة والأخـلاق. وإذا كان قـد تَـرك لنـا تراثًـا زاخـرًا بالفكـر وفلســفة الحُكــم وزهــد الحاكــم وعدلــه وشــجاعته، فـإن الإمـام الحسـين تَـرك لنـا تراثًـا غنيًـا في مُواجَهـة الظلــم والدفــاع عــن الحــق والعــدل.

ســألتهُ عــن قصيــدة »هــذه ليلتــي« التــي تُعَــد إحــدى تحفِــهِ الشــعرية الرائعــة، والتــي يقــول فيهــا:

هـذه ليلتـي وَحُلْـمُ حَيَاِتـي بَـينَ مَـاضٍ مـن الزمـانِ وَآتِ

الهَــوَى أنََــتَ كُلــه والأمَانِــي فَامــلأ الــكأسَ بِالغَــرامِ وَهَـاتِ

بَعــدَ حِــينٍ يُبــدلُ الحُــب دَارًا وَالعَصَافِــيرُ تَهجُــرُ الأوكَارا

وديــارٌ كانَــت قَدِيمًــا دِيــارا سَــتَرَانَا، كَمَــا نَرَاهَــا، قِفَــارا

سَـوفَ تَلهُـو بِنـا الحَيـاةُ وتَسـخَر فَتَعَـالَ أحُِبـكَ الآنَ أ كثَر

قــال لي كانــت أم كلثــوم قــد أعَلنــت في عــام 1968 عــن رغبتهــا في أن تغنــي قصيــدةً لشــاعرٍ مــن كل بلــدٍ عربــي، وأنهــا اختــارت قصيــدة لشــاعرٍ لبنانــي، لكنهـا لـم تُفصـح عـن الاسـم، وكنـتُ أعلـم مـا دارَ بين الموســيقا­ر محمــد عبدالوهــا­ب وبينهــا، فقــد أبلغنــي بذلــك هاتفيــا، وحــين زارَ محمــد عبدالوهــا­ب لبنــان، وأقَــام في فنــدق شــبرد في مصيــف بحمــدون، التقيــتُ بــه، وطلــبَ منــي إعــادة قــراءة القصيــدة لــه، ثــم التقينـا في أوتيـل أمبسـادور مـع فريـد الأطـرش ونجاة الصغـيرة وإحسـان عبدالقـدوس، فأخذنـي عبدالوهـاب إلى الشرفــة المطلــة عــلى وادي لامارتــين لأقــرأ عليــه مُجـددًا بعـض أبيـات القصيـدة، فقـال هـذا مـا أريـده لأم كلثــوم، وفرحــتُ كثــيرًا، وكنــتُ تعرفــتُ إليهــا في عـام 1965، وقـد لحـن محمـد عبدالوهـاب القصيـدة، وغنتهـا أم كلثــوم، ولَقَــتِ استحســانًا وحماســةً كبــيرةً مــن الجمهــور الــذي اعتبرهــا مــن أهــم أغانيهــا.

وســبقَ ذلــك اللقــاء أن اجتمــعَ عبدالوهــا­ب وأم كلثــوم وجــرداق في القاهــرة في منــزل أم كلثــوم في شــارع أبــو الفــدا (المطــل عــلى النيــل) وأبَــدت أم كلثــوم إعجابهــا بالقصيــدة ذات الأجــراس الموســيقي­ة كمــا ســمتها، ووصَفَهــا عبدالوهــا­ب بالســهل المُمتنِــع، وكان كثــير الإعجــاب بجــورج جــرداق.

قلـتُ لـه مـاذا كان شـعوركَ وأنـتَ تسـمع القصيـدة مغنــاة، فأجــاب إنهــا مثلــت ثلاثيــةً رائعــة بــين الأداء والموســيق­ى والنــص، كمــا اعتبرتْهــا الصحافــة حينهــا نِتــاج لقــاء »ثــلاث قِمــم«. وقــد دُعيــتُ لحضــور الحفلــة التــي ســتغني بهــا أم كلثــوم في القاهــرة عــلى مــسرح ســينما »قــصر النيــل«، وحــضرتُ أنــا وزوجتــي، وقــد عــادت أم كلثــوم وغنتهــا في بعلبــك في العـام 1970، وكانـت تلـك آخـر حفلـة لهـا في لبنـان، فقــد رحلــتْ عــن دنيانــا في 3 فبرايــر 1975.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia