Al-Watan (Saudi)

تاريخنا جزر ثقافية منفصلة

-

إلى إعادة كتابة التاريخ الثقافي العربي بروح نقدية، وبتوجيه من طموحاتنا نحن العرب في التقدم والوحدة.

إن التراث يشــكل بالفعل المقوم الأساسي للنزوع الوحدوي لدى العرب في كل العصور، وهو يغذي هذا النــزوع في العصر الحاضر بصورة أقوى، ولكن مع ذلك لا بد من الاعتراف بأننا لم نتمكن بعد مــن ترتيب العلاقة بين أجزاء هذا الــتراث من جهة، وبينه وبيننا من جهة أخرى بالصورة التي تجعله يؤســس ذاتنا العربية وفق متطلبــات العصر، ولعل الملاحظــا­ت التالية تــبرز إلى أي مدى يفتقد تاريخنا الثقافي إلى إعادة كتابة.. إلى إعادة بناء.

- التاريخ الثقافي العربي، كما نقرؤه اليوم في الكتب والمــدارس والجامعات، هو تاريخ فرق وتاريخ طبقات وتاريخ مقالات.. إلخ. إنه تاريخ مجزأ، تاريخ الاختلاف في الرأي، وليس تاريخ بناء الرأي. نعم إن طريقة القدماء هذه كانت تمليها عليهــم ظروفهم، بل يمكن أن نبررها نحن. كذلك بالنظر إلى المعطيات التي حركتهم، فإن طريقتهم في التاريخ هي نفسها جزء من التاريخ، ولذلــك فلا معنى للومهم، وإنما اللوم كل اللوم لانقيادنا الأعمى لما كان نتاجا لظروف تاريخية خاصة، ولتعاملنا معه وكأنه حقيقة مطلقة. إن هذا الانقياد يصرفنا عن اكتشــاف الكل الذي يحمل فعلا الوحدة الثقافيــة العربية، ذلك أنــه وراء »تاريخ« الاختلاف والتعدد والصراع والانفصال يثوي تاريخ الوحدة والتكامل والاتصال، وإذن فعلى أنقاض تاريخ الأجزاء الممزق المبعثر يجب أن نبني تاريخ الكل.

والتاريخ الثقافي العربي، كما هو سائد اليوم، هو تاريخ علــوم وفنون من المعرفة منفصلة بعضها عن بعــض، فتاريخ المذاهب الفقهية -إن وجد- معــزول تماما عن تاريخ المذاهب النحوية، وهما معــا منفصلان كل على حدة عن تاريخ المذاهب الكلامية والفلســفة.. إلخ. نعم نحن لسنا ضد التخصص، ولكن يجب أن نراعي داخل دائرة التخصص نفسها الترابط بين الاختصاصــ­ات في ثقافة الماضي، فالفقيه كان نحويــا، والنحوي فقيها، وربما نجدهما معا من المتكلمــي­ن أو البلاغيين، وكما عرف تاريخنا الثقافي فقهاء علماء في الرياضيات أو الفلك أو النبات، عرف كذلك فقهاء فلاســفة كالغــزالي وابن حزم وفلاســفة فقهاء كابن رشد.. وهكذا فوراء التعدد والتنوع في ثقافتنا الماضية يقوم التكامــل والوحدة، وهذا شيء يغفله تاريخنا الثقافي الســائد الآن، والنتيجة من هــذا الإغفال هي أن الفقيــه منا لا يرث من فقه الماضي إلا خصومــة بعض الفقهاء للفلسفة مثلا. كما لا يرث نحاة اليوم من نحو الماضي إلا خصومة بعض النحاة للمناطقة، في حين أن هذه الخصومــات جميعها كانت إما خصومات علمية، أي اجتهــادات، أو امتداد لخصومات سياسية، وفي كلتا الحالتين كانت تمليها عوامل ظرفية، لذا يجب إذن أن تبقى هناك مرتبطة بظروفها، لينفســح المجال لما هو تاريخي حقا، أي لما هو صيرورة وتكامل ووحدة.

- التاريخ الثقافي العربي الراهن زمنه راكد، كما أوضحنا ذلــك قبل، وبالتالي فهو لا يقدم لنا تطور الفكر العربــي، وانتقاله من حال إلى حال، بل يقدم لنا »معرضا« أو »ســوقا« للبضاعة الثقافية الماضية التي تحيا كلها زمنا واحدا يعاصر فيه القديم الجديد تماما مثلما تعاصر البضاعــة القديمة البضاعة الجديدة

خلال فترة المعرض أو السوق، والنتيجة من ذلك تداخل الأزمنة الثقافية في وعينا بتاريخنا الثقافي، مــا يفقدنا الحس التاريخي، ويجعل حلقات الماضي تتراءى أمامنا كمشاهد متزامنة وليس كمراحــل متعاقبة، وهكــذا يتحول حاضرنــا إلى »معرض« لمعطيــات ماضينا، فنعيش ماضينا في حاضرنا هكذا جملة واحدة دون تغاير، ودون تاريخ.

- وكما يتســم تاريخنا الثقــافي بتداخل الأزمنة الثقافية، يتسم كذلك بتداخل الزمان والمكان فيه، حيث إن تاريخنا الثقافي يرتبط في وعينا بالمكان ربما أكثر من ارتباطه بالزمان، فتاريخنا الثقــافي هو تاريخ الكوفة والبصرة ودمشــق وبغداد والقاهرة والقيروان وفاس وإشــبيلية وقرطبة، ما يجعــل منه تاريخ »جزر ثقافية« منفصلة بعضها عن بعض في الزمان انفصالها في المكان، والنتيجة حضور هذه الجزر الثقافية في الوعي العربي المعاصر حضورا لا على التعاقــب ولا على التزامن، بل حضور لا زماني، الــشيء الذي يجعل وعينا »التاريخــي« يقوم على التراكــم وليس على التعاقب، على الفوضى وليس على النظام.

وراء التعدد في ثقافتنا الماضية يقوم التكامل، وهذا شيء يغفله تاريخنا الثقافي الآن، والنتيجة أن الفقيه لا يرث من فقه الماضي إلا خصومة بعض الفقهاء للفلسفة

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia