Al-Watan (Saudi)

متى نحكم على أعمالنا الفنية با فلاس والسطحية

-

لم تظهر كلمة المجتمع إلا في الفلســفة الحديثة، خاصة في وضعية أوجســت كونــت، والمجتمع في أبسط تعريفاته هو تجمع بشري حول قيمة لغاية نفعية، وتتغير صورة المجتمع وأساليبه في التصرف والسلوك باختلاف الظروف البيئية التي يعيشها، ومن خلال الحياة الاجتماعية يهتدي الإنســان إلى ألوان من التنظيمات والخبرات تعينه على السيطرة على الظروف، وتوجيههــا الوجهة التي تتفق مع منفعته، والتفوق على ممانعتها، ليتجاوز أســلوب حياته إلى أسلوب أكثر جدوى.

كلمة المجتمع كلمة جديدة على اللغة الإنســاني­ة، حتى إننا لا نجدها في الفكر اليوناني كله، وكل ما قد نجده عند أفلاطون وأرسطو هو اهتمامها بدور الفرد في نطاق الدولــة، فمن الواضح أن أفلاطون قد أعاد تفسير »اعرف نفســك«، بحيث جعلها لا تنصرف فحسب إلى الإنسان الفرد، بل تنصرف إلى الجماعة البشريــة من خلال تنظيم الدولة، وذهب أرسطو بهذا الفهم خطوة أبعد، فجعل من الإنسان حيوانًا سياســيًا؛ بمعنى أنه يشــارك من خلال مواطنته في الأمور السياسية لبلده.

ويكتسب كل شيء في الحياة الاجتماعية مكانته من خــلال منفعته المباشرة للإنســان، فقصيدة منظومة في تحديــد أوقات الحرث والبذار والجني هي أكثــر نفعًا للمجتمع الريفي من ديوان المتنبي بأكمله، ذلك لأن المجتمع قد يعامل الفن أو الفلسفة، كما تعامــل أدوات الحياة المختلفة، ويقيس نفعها قياسًا عمليًا مباشرًا.

ولا شــك أن هذه النظرة النفعية قد أضافت إلى الذخيرة الإنســاني­ة ألوانًا مختلفــة من الخبرات، اكتسبها الإنســان من خلال علاقته مع الطبيعة والكائنات، وقد أنتج تراكم هذه الخبرات، ومقدرة الإنســان على ترتيبها والتمييز بينهــا، ألوانًا من الخبرات العامة، نضجــت لتصبح بعد ذلك علومًا تطبيقية مثل الزراعة وهندســة المسافات والطب والكيمياء.

وهذه العلوم وغيرها هي التي أسهمت في الارتقاء بالحياة المادية للإنسان، ونقلته من مجتمع الغابة إلى مجتمع القرية، ومن مجتمع القرية إلى مجتمع المدينة، وهي جديرة بعد ذلك أن تنقله إلى القمر.

وتحاول هذه العلوم أحيانًا أن تتجاوز آفاقها حين تتخم بالخبرات، فتبحث عن منهج ترتب به خبراتها وتميز بينها فتلجأ إلى العقل، وهنا تتحول هذه العلوم من مجرد خبرات إلى قوانين لها مظهر تجريدي، فإذا اهتــدت إلى قوانينها تجاوزت ذلك إلى البحث في علة وجودها، وفي علاقتهــا بالعلوم الأخرى وفي علاقتها بالإنســان، وهنا تبدأ هذه العلوم في التفلسف، فقد نقلت صعيد عملها من المجتمع إلى الإنسان.

لقد بدأ الاقتصاد كخبرة إنسانية في تنمية الثروة، ثم ما لبــث أن أصبح مجموعة من القوانين تهدف إلى ابتــكار قواعد لهذه التنمية، ثم تحول بعد ذلك إلى تفســير التطور الإنساني باحثًا لنفسه عن علة وجود، وهنا تحول إلى فلسفة.

ولكن جملة ما نســميه »فلســفة العلوم« حين ترقــى إلى أوُجِّها، تحاول أن تفسر الإنســان من خلال الإنسانية، ولكنها لا تعرف كيف تفسر الإنسانية من خلال الإنسان، فالإنسان هو نقطة البدء، وكل فلسفة تركيبية ينبغي أن تبدأ بالمفرد، لكي تستطيع بعد ذلك أن تصل إلى الشامل العام، فالوجود البشري ليــس مجموعة من الأشــجار أو ذرات الرمل، ولكنه مجموعة من الكيانات المفــردة التــي تبلغ درجة اختلافها حدًا يدعو للدهشة، لا نســتطيع أن نميز البشر بالعنصر أو اللون أو الطبقة لكــي نضعهــم في إدراج مرتبة، فيســهل علينا أمر رؤيتهم وتصنيفهم وتحديد مواقفنا تجاههم، وإن النظر إلى الإنســان من خلال لون بشرته أو عنصره أو طبقته -في الحياة كما في الفن- لدليل ميــل واضح إلى الكســل العقلي والذوقي.

مما لا شــك فيه أننا في الفن حين نتبنى النماذج الجاهزة، ونقدم البشر -مــن خلال مسرحية أو رواية- كأنماط لا شــخصيات نحكم على أعمالنا الفنية بالإفلاس والسطحية، وذلك هو الشأن أيضا بالنسبة للحياة.

إن العلوم الاجتماعية صالحة بلا شــك للرقي بالحياة المادية للإنســان، ولكن علمًا واحدًا منها لم يتعرض للإنسان كإنسان، ولكن ما دام البشر مختلفــين إلى هذا الحد فما الــذي يجمعهم حتى يدور حوله بحث وتساؤل.

‪1969 *‬ * شاعر وكاتب مصري

‪«1981 -1931»‬

في الفن حين نتبنى النماذج الجاهزة، ونقدم البشر كأنماط لا شخصيات نحكم على أعمالنا الفنية بالإفلاس والسطحية، وذلك هو الشأن بالنسبة للحياة.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia