Al-Watan (Saudi)

تأثيرات هيغل الفلسفة الغربية المعاصرة

-

قبــل أن يُصــدر كتابــه الأســاسي: »فينومينولو­جيــا الــروح« ســنة ،1807 كان هيغــل قــد عــاش أحداثًــا مهمــة عــلى المســتوى الشــخصي، وكان شــاهدًا عــلى أحــداثٍ مُهمّــة أيضًــا عــلى المســتوى العــام، ففـي سـنة 1799 تـوفي والـده ليحصـل عـلى مـيراثٍ مُتواضـع سـاعده عـلى تهيئـة نفسـه لوظائــف جامعيــة، وفي ســنة 1801، عُــيِّن أســتاذًا مُســاعدًا في جامعــة »يينّــا« الألمانيــ­ة.

وبعــد ذلــك بســنة واحــدة، أســس مــع شــيلينغ »الجريــدة النقديــة للفلســفة«، وعنـد تعيينـه أسـتاذًا ممتـازًا للفلسـفة سـنة 1805، اندلعــت حــرب »الأباطــرة الثلاثــة«، وفي معركــة »أوســترليت­ز« الشــهيرة حقَّــق الجيــش الفرنــسي الكبــير بقيــادة نابليــون بونابــرت انتصــارًا ســاحقًا عــلى الجيشَــيْن النمسـاوي والـروسي، وفي تلك السـنة نفسـها تــوفي فردريــك شــيلر، الــذي كانــت تربطــه بـ»هيغــل« علاقــة صداقــة تعــود إلى أيــام الدراسـة الجامعيـة، تمامًـا مثلمـا كان الحال بالنســبة إلى الشــاعر هولدرلــين.

وفي ســنة 1806، أعلنــت بروســيا الحــرب عـلى فرنسـا، وعنـد دخـول الجيـش الفرنسي مدينــة »يينّــا«، شــاهدَ هيغــل مــن نافــذة غرفتــه نابليــون عــلى صهــوة حصانــه، فنطـقَ بقولتـه الشـهيرة: »هـا إنّـي أرى روحَ العالَــم عــلى صهــوة حصــان«، وقــد اقتحــمَ الجنــودُ الفرنســيّون بيــتَ هيغــل وراحــوا يعبثــون بالأثــاث، ويُحطمــون كل مــا يقــع بـين أيديهـم، ولمّـا لاحَـظ هـو وسـامًا رفيعًـا عـلى صـدر أحـد الضبـاط، قـال لـه: »الـذي عــلى صــدره وســام رفيــع مثــل وســامك، يتوجــب عليــه أن يحــترم عالِمًــا ألمانيًــا مُسـالِمًا«. وعـلى الرغـم مـن أنهـم كفـوا عـن عَبَثِهــم بالبيــت، إلّا أنّ الجنــود الفرنســيي­ن لــم يَخرجــوا منــه إلا بعدمــا انتهــوا مــن شربِ كل الخمـور الموجـودة فيـه، بعـد ذلـك غــادرَ هيغــل المدينــة المحتلَّــة ومعــه نســخة مــن »فينومينولو­جيــا الــروح« »ظاهريــات العقــل«، الــذي ســيكون منــذ ذلــك الحــين مَرجعًـا أساسـيًا في تاريـخ الفلسـفة الغربية، إليــه ســيعود كلُّ الفلاســفة، وكلُّ المُفكريــن بقطـع النَّظـر عـن توجُّهاتهـم واختلافاته­ـم.

الأمــر الأوّل الــذي تتوجّــب الإشــارة إليــه هــو أنّــه في الفــترة التــي كان فيهــا هيغــل يُــدَرِّسُ في جامعــة »يينّــا«، عَرفــت ألمانيــا حَدَثًــا آخــر تمثَّــل في رحلــةٍ إلى بلــدان أمريـكا اللّاتينيّـة قـامَ بهـا مواطـنٌ مشـهور مـن برلـين يُدعـى ألكسـندر فـون هومبولت 1769) - 1859) ليعـود مـن هنـاك بخارطةٍ مُفصَّلـة عـن تلـك البلـدان، وبتصويـرٍ دقيق للأزهــار والطيــور، والنــاس الذيــن التقــى بعــد وفــاة هيغــل ســنة 1830، أصبحــت فلســفتُهُ الفلســفةَ الرســميّة لبروســيا، وقــد ظــنّ الكثــيرون مــن المُهتمّــين بشــؤون الفلسـفة أنّـه ليـس بالإمـكان مسـتقبلاً »تجاوزهـا« و»انتقادهـا«، والإتيــان بمــا يُعارضهــا ويُخالفهــا، إلّا أن أفــكار هيغــل سرعــان مــا خرجــت مــن الدوائــر الرســميّة والأكاديميّــة لتُصبــح في قلــب كلّ المعــارك، وفي ســائر المُناقشــات الفكريّــة والفلســفيّة والأدبيّــة والسياســيّة والاجتماعيّــة وحتّــى الاقتصاديّــة. وأهــمّ مَــن مَثَّلهــا في العقدَيْــن الأخيرَيْــن مــن النصــف الأوّل مــن القــرن التّاســع عـشر هُـم أولئـك الذيـن أصبحـوا يُسـمّون بـ»الشـبّان الهيغليّـين،« وهُــم في أغلبهــم يُجسّــدون »الحركــة الثوريّــة« التــي تَســتند إلى صاحــب »فينومينولو­جيــا الــروح« الــذي كان يــرى أنَّ مــن بــين الصّفـات التـي تتميَّـز بهـا فـترة الشـباب هـي التعلُّـق بمـا هـو غريـب، والتّـوق إلى المسـتقبل والشـغف بـه، ورفْـض العالَـم كمـا هـو، والرغبـة الجامحـة في تغيـيره، أمّـا القدامـى فهُـم غالبًـا مـا يتميّــزون بالهــدوء وبالرصانــ­ة والاتّــزان، ويكونــون ســعداء بمــا هُـم فيـه، فتراهـم يُظهـرون الريبـة والحـذَر والخـوف مـن كلّ مـا يمكــن أن يُفسِــد اســتقراره­م، وقــد وَجَــدَ »الشــبّان الهيغليّــون،« أو »الهيغليّـون اليسـاريّون« في فلسـفة هيغـل، مـا حرّضهـم عـلى نقْـد الدّيـن والسياسـة بطريقـةٍ راديكاليّـة لـم يسـبق لهـا مثيـل، وهــذا مــا فعلــه دافيــد شــترواس في كتابــه: »حيــاة المســيح« الصــادر ســنة 1835، الــذي انتقــد فيــه الأناجيــل، مُعتــبرًا إيّاهــا »سرديّــة لا واعيــة للمجموعــا­ت المســيحيّة الأولى«، ونَــزَعَ الألوهيّــة عــن المســيح ليغــدوَ »كائنًــا تاريخيٍّــا وأرضيٍّــا.« وبعـد صـدور الكتـاب المذكـور بثـلاث سـنوات، صـدر كتـابٌ آخـر سـوف يُعتـبر في مـا بَعـد مـن أهـمّ الكُتـب الفلسـفيّة في القـرن التّاسـع عـشر. وهـو بعنـوان: »مقدّمـات نظريّـة لفلسـفة التاريـخ« للبولونـي أوغسـت شسكوفسـكي (1814 - 1894) الـذي كان فيلسـوفاً ورجــلَ اقتصــادٍ مرموقــاً وعالِــمَ اجتمــاعٍ ومُناضــلاً سياســيّاً. وقــد طبَّــق شسكوفســكي جدليّـة هيغـل عـلى تاريـخ الفلسـفة كاشـفاً مـن خـلال ذلـك عـن المسـتقبل. وهـو يـرى أنّ التاريـخ يُشـكّلُ وحـدةً عضويّـة يكـون المسـتقبل جـزءاً منهـا تمامـاً مثلمـا هـو الحـال بالنسـبة إلى المـاضي والحـاضر؛ ثـمَّ يمـضي كشسـكوفكي قُدمـاً ليؤكِّـد أنّـه إذا مـا كانـت المرحلتـان الأولتـان للإنسـانيّة تتميّـزان بالكينونـة والفكـر، فـإنّ الحصيلـة تكـون الفعـل (البراكســي­س). وبذلــك مَنَــحَ شسكوفســكي مفهومــاً ثوريّــاً راديكاليّــاً لفلســفة هيغــل لتكـون بالنسـبة إليـه »فلسـفة الفعـل - البراكسـيس« بامتيـاز. وكان اليهــودي الألمانــي موســز هــسّ (1812 - 1875) مــن أكــبر المتأثّريــن بأوغســت بعـد سـقوط جـدار برلـين في خريـف عـام 1989، وانهيـار الأنظمـة الشـيوعيّة في بلـدان أوروبـا الوسـطى، التـي كانـت تــدور في فَلَــكِ مــا كان يُســمّى بالاتّحــاد الســوفيات­ي، عــاد فرانســيس فوكويامــا، الأمريكــي مــن أصــول يابانيّــة، إلى هيغـل، وتحديـدًا إلى نظريّتـه حـول نهايـة التاريـخ، ليقـوم بقـراءةٍ للأحـداث المذكـورة، طَـرَحَ ذلـك في مقـالٍ حوَّلـه في مـا بعـد إلى كتـابٍ أحـرز شـهرةً عالميّـة واسـعة، ومُلخّـص الفكــرة الأساســيّة لهــذا الكتــاب هــو أنّــه بعــد انهيــار الشـيوعيّة، لـن تتمكّـن أيّـة إيديولوجيـ­ا أخـرى مـن الـبروز لمُناهضــة الديمقراطيّــة الغربيّــة. وصحيــح أنّ هنــاك حروبًــا ســوف تندلــع بســبب تنامــي الأصوليّــات الدّينيّــة المتطرّفــة، وبــروز النّزعــات القوميّــة الشــوفينيّة، إلّا أنّهــا لــن تكــون مُؤثّــرة في مَســار التاريــخ لافتقارهـا إلى الأفـكار المهمّـة والعظيمـة مثلمـا هـو الحـال بالنســبة إلى الشــيوعيّة. وفي البدايــة، يطــرحُ فوكويامــا السـؤالَ التـالي: مـا هـو الرّهـان بالنسـبة إلى شـعوب العالَم برمّتـه، مـن إسـبانيا إلى الأرجنتـين، مـرورًا ببولونيـا والمَجر عندمــا تقــوم بالإطاحــة بالديكتاتو­ريّــة لتُقيــمَ نظامًــا ديمقراطيًــا ليبيراليًــا؟ ومُجيبًــا بنفســه عــن هــذا الســؤال، يكتـب فوكويامـا قائـلاً: »في مسـتوى مُعـيّن يكـون الجـواب ســلبيًا قائمًــا عــلى أخطــاء ومظالــم النظــام المنهــار، إذ إنّ النــاس يريــدون التخلُّــص مــن العســكريّين المكروهــي­ن، أو مـن زعمـاء الأحـزاب الذيـن كانـوا يضْطهدونهـم، أو العيش متحرّريــن مــن الخــوف مــن توقيــفٍ تعسُّــفي، والذيــن وكان ماكــس شــتيرنر (1808 - 1856) أكثــر راديكاليّــة في قراءتــه لفلســفة هيغــل مــن دافيــد شــتراوس، وأوغســت كشسكوفســك­ي ولودفيــك فويربــاخ، وفي كتابـه: »الأنـا العليـا وذاتهـا« الصـادر سـنة 1845، شـنّ هجومًـا عنيفًـا عـلى أتبـاع هيغـل، بمَـن في ذلـك الشـبّان منهـم، الذيـن ظلّـوا بحسـب رأيـه سـجناء مـا سـمّاه »الحلقـة السـحريّة« للمسـيحيّة، وداخـل هـذه الحلقـة هُـم يُنظّـرون خاضغـين »للكائـن الأعـلى«، ولـ»شـبح« قـد يكون إلهًـا، أو دولـةً، أو مجتمعًـا، أو الإنسـان نفسـه. وفي ســنوات شــبابه، انتســب كارل ماركــس (1818 - 1883) إلى »الشــبّان الهيغليّـين«، وتحمَّـس لأفكارهـم الراديكاليّـة، وخصوصًـا في مجـال السياسـة والدّيــن، إلّا أنّــه انشــقَّ عنهــم، وعــن فلســفة هيغــل برمّتهــا، ليؤسِّــسَ منهجًـا فلسـفيٍّا خاصٍّـا بـه، وعـلى الرّغـم مـن أنّـه كان يعتقـد مثـل هيغـل أنّ العالَـم يتطـوّر طبقـاً لصيغـةٍ جدليّـة، إلّا أنّـه يختلـف عنـه بشـأن القـوّة بهــم في مُختلــف المناطــق التــي زارهــا. كمــا أنّــه أنَجــز العديــد مــن الاكتشــاف­ات العِلميّـة، وأعـادَ إحيـاء كلمـة »الكـون«، كمـا في معناهــا في الفلســفة اليونانيّــة القديمــة، وكلّ هــذا ســيكون لــه تأثــير عــلى هيغــل قبــل أن يــشرع في كتابــة مؤلَّفــه المذكــور.

ومــن المؤكَّــد أيضًــا أنّ هيغــل اســتعانَ بالمؤلَّفــات الفلســفيّة التــي صَــدرت في عـصره، أو قَبلـه، ومنهـا عـلى سـبيل المثـال مجلَّــدان مُخصَّصــان لتاريــخ الفلســفة، صـدرَ الجـزء الأول منهمـا في أواخـر القـرن الثامــن عــشر، وصَــدَرَ الجــزء الثانــي في بدايــات القــرن التّاســع عــشر.

ويقــول الفرنــسي جــان- بيــار لوفافــر، الـذي نقـل »فينومينولو­جيـا الـروح« إلى لغـة موليـير: إن الفكـرة التـي كانـت مُهيمنـة على العقـد الأخـير مـن القـرن الثامـن عـشر، لـم تكُــن تتعلــق بوحــدة تطــوُّر الكائــن الفــرد والســلالة اللّذَيْــن لــم يكونــا قــد وُجــدا بعــد، وإنّمــا بتاريــخ تطــوُّر الفــرد منــذ أن كان جنينًــا في بطــن أمّــه وحتــى وفاتــه، وبتاريــخ البشريّــة، وتحديــدًا في مراحلــه الكبــيرة الفلســفيّة والدّينيّــة مــن منظــورٍ متفائــل، انطلاقًــا مــن فلســفة الأنــوار، أي إنّ الفكــر يمــضي في اتجــاه النــور، وفي اتجــاه الوعــي، وفي اتجــاه الوضــوح، وفي اتجــاه الحريّــة، وكلّ هــذا كان حــاضرًا لــدى فلاســفة نهايــات القــرن الثامـن عـشر، أي كانـط وليسـينغ وهــردر سيسي وكونــدورس­ي،مــن هــذا الجانـب لـم يكُـن هيغـل مختلفًـا عــن الفلاســفة المُتقــدّم ذكرهــم، لكــن مــا ســوف يتميّــز بــه هــو فينومينولو­جيــا العقــل، أي تتبُّــع العقــل خطــوة خطــوة، وهــو يتــدرّجُ في مُغامرتـه الفكريّـة انطلاقًـا مــن اليقــين المحســوس وحتــى المعرفــة المُطلقــة، وذلــك باســتعمال ديناميكيــ­ة تاريــخ الفلســفة. شسكوفسـكي، وهـذا مـا بَـرز بالخصـوص في مؤلّفـه »رومـا وأورشـليم«، الـذي سـيُصبح منـذ ذلك الحـين السّـند النظـري الأسـاسي لـ»حركـة الصهيونيّـة العُمّاليّـة«، والتـي اعتماداً عليهـا أنُشـئت »الكيبوتـزا­ت« لـدى نشـوء دولـة إسرائيـل. وكان لودفيـك فويربـاخ (1804 - 1872) مــن أتبــاع هيغــل هــو أيضًــا، وتحديــدًا في بداياتــه، واعتمــادًا عــلى الجانــب المــادّي في الفلســفة الهيغليّــة، أصَــدر فويربــاخ ســنة 1844 كتابــه »جوهــر المســيحيّة«، الـذي شـدّدَ فيـه عـلى أنّ اللـه مـن خلـق الإنسـان، وأنّ الإنسـان يخلـق اللـه عـلى صورتـه، وعـلى الرّغـم مـن أنّـه لـم يـدّعِ الإلحـاد، إلّا أنّـه كان يَعتـبر إدانـة الإلحـاد أمـرًا مرفوضًـا لأنّ الأخـلاق تنبـع مـن العقـل الإنسـاني، ولأنّ الألوهيّـة موجـودة في جوهـر الإنسـان، كمـا أنّــه كان يَعتــبر الإيمــان باللّــه علامــةً مــن علامــات اغــتراب الإنســان عــن ذاتــه، نازِعًــا عنـه خصائصـه الأساسـيّة المُتمثّلـة في الحريّـة تحديـدًا، وفي الوعـي، وفي الإبـداع. لذلـك فـإنّ المَهمّـة الأساسـيّة لنقـد الإيمـان باللّـه هـي أن يُعـاد للإنسـان كيانـه المفقـود. يعيشــون في أوروبــا الشرقيّــة أو في الاتّحــاد الســوفيات­ي يظنّــون أنّهــم ســيحصلون عــلى الــترف الرأســمال­ي، أو هُــم يأملــون في ذلــك بمــا أنّ الرأســمال­يّة والديمقراط­يّــة ترتبطــان معًــا في أذهــان الكثيريــن، لكــن مــن المُحتمَــل أيضًــا الحصــول عــلى الــترف مــن دون حريّــة مثلمــا هــو الحــال بالنســبة إلى إســبانيا وكوريــا الجنوبيّــة وتايــوان التــي حكمتهــا أنظمــةٌ تســلّطيّة. مـع ذلـك لـم يكُـن الـترف كافيًـا، وكلّ محاولـة لتوصيـف الاندفــاع البــشري الــذي كان ســببًا في انــدلاع الثــورات المحرِّكـة لهـذا التطـوُّر. وهـذه القـوّة ليسـت »العقـل« كمـا لـدى هيغـل، بـل المــادّة المرتبطــة بالإنســان، وبالــصراع بــين الطبقــات، وبالبنــى الاجتماعيّــة والاقتصاديّــة. وانطلاقًــا مــن ذلــك، أطَلــق مفاهيــم فلســفيّة جديــدة مثــل »الجدليّــة التاريخيّــة«، و»الــصراع الطبقــي«، و»البنــى الفوقيّــة والتحتيّــة«. وبذلــك تكــون التيّــارات والمذاهــب السياســيّة والاقتصاديّــة والثقافيّــة والفلســفيّة والفنيّــة والأدبيّــة خاضعــة لنظريّــة »التطــوُّر المــادّي للتاريــخ«، أي ثمــرة نمــط الإنتــاج في كلّ حقبــة مــن حقــب التاريــخ البــشري. وفي كتابــه: »الإيديولوج­يــا الألمانيّــة« الــذي ألَّفــه مــع صديقــه، فريدريــك إنجلــز، انتقــدَ ماركــس الجدليّــة المثاليّــة لــدى هيغــل، مُســتبدِلاً إيّاهــا بالماديّــة التاريخيّــة، مُعتــبرًا أنّ المــادّة هــي الأصــل، وأنّ الفكــرة تابعــة لهــا؛ لذلــك لا يُمكننــا أن نفهــم حركــة التاريــخ إلّا مــن خــلال الجدليّــة الماديّــة اللّيبراليّـة في أواخـر القـرن العشريـن، وأيضًـا كلّ الثـورات مــن هــذا النمــط منــذ الثــورة الأمريكيــ­ة والفرنســي­ة في القــرن الثامــن عــشر، كمــا لــو أنّــه اقتصــادي فقــط، كانـت مبتـورة بشـكلٍ جـذري«. ويواصـل فوكويامـا كلامـه قائـلاً: »إنّ فشـل التفسـير الاقتصـادي للتاريـخ يعـود بنـا إلى هيغـل، وليـس إلى ماركـس، لأنّ هيغـل يُحلِّـل السـيرورة التاريخيّـة بطريقـةٍ ليسـت اقتصاديّـة مُطلقًـا بالنسـبة إلى هيغـل، تأسَّـس التاريـخ عـلى الـصراع مـن أجل الاعـتراف«، ولكــي نكتشــف معنــى هــذه العبــارة، يتوجّــب علينــا أن نعــود إلى التفســير الــذي يقدّمــه عــن بدايــة التاريــخ، وهـو تفسـير يُمكـن مُقارنتـه بتفاسـير »الحالـة الطبيعيّـة« لـدى أوائـل المُنظِّريـن المُعاصريـن للّيبراليّـة، والذيـن كانـوا ســابقين لــه، أي هوبــز ولــوك وروسّــو. وكان هيغــل يرفــض بلْــورةَ نظريّــةٍ عــن »الحالــة الطبيعيّـة«، ومـن المؤكَّـد أنّـه كان سـيرفض مفهـومَ طبيعـة بشريّــة ســاكنة وجامــدة ومتواصِلــة، وبالنســبة إليــه، الإنســان حــرٌّ، وليــس مُحــدَّدًا، وإذن هــو قــادر عــلى أن يبتكــر طبيعتــه الخاصّــة بــه خــلال مَســار التاريــخ. مــع ذلــك نحــن نجــد لــدى الفيلســوف الألمانــي نظريّــةً تعـود إلى »الحالـة الطبيعيّـة«، وفي »فينومينولو­جيـا الـروح« هــو يَصِــف »الإنســان الأوّل« البدائــي، الــذي يعيــش في بدايــة التاريــخ كنمــوذجٍ للكائــن البــشري الــذي يَمتلــك كلّ الخصائــص الأساســيّة للإنســانيّة الســابقة للمُجتمــع المدنــي ولتطــوُّر التاريــخ. التـي بموجبهـا يُحـدّدُ الواقـعُ الاجتماعـي الوعـيَ الاجتماعـي، أمّـا هيغـل فقـد كان يـرى أن التاريـخ لا يُمكـن أن يكـون تتويجًـا للعقـل، وبتحقيـق تدريجـي للأفـكار الكونيّـة؛ لذلـك اعتـبر أنّ الثـورة الفرنسـيّة هـي تجسـيد في الواقـع لفلســفة الأنــوار التــي بــشَّر بهــا كلٌّ مــن فولتــير، وروســو، وديــدرو. يُمكــن القــول إنّ جــلّ كبــار فلاســفة القــرن العشريــن، ومــن مُختلــف المذاهـب والتيّـارات، تأثَّـروا بفلسـفة هيغـل، وكان ألكسـندر كوجيـف (1902 - 1968) مــن أكثــر المتأثّريــن بــه، وفكرتــه الأساســيّة المتمثّلــة في مقولــة »نهايــة التاريــخ«، والمعجبــو­ن بــه، والذيــن كانــوا يحــضرون محاضراتــه عــن هيغــل، يقولــون إنّــه كان مــن أعظــم فلاســفة القــرن العشريــن، ومــن أكثرهــم عمقــاً ومعرفــةً بالــتّراث الفلســفي منــذ الإغريــق، وكان ألكســندر كوجيــف يحــذق لغــات عــدّة، ويتكلّــم بهــا بطلاقــة. لذلــك اختارتــه الــدّولُ الأوروبيّــة لكــي يكــون موظّفًــا ســاميًا في منظّماتهــا الكبــيرة.

*كاتب من تونس *ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكتروني­ة

 ?? ??
 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia