Al-Watan (Saudi)

ضياع نتاج الشاعرات جدلية وأد التراث الأنثوي العربي

- سوسن ناجي إسهام المرأة الحرّة تشكيل الهوية الجنسية أشعار الجواري

16

إذا كانــت حضــارة العــصر العبــاسي قــد مــلأت الدنيــا وشــغلت النــاس عــلى مــدى قـرون، حيـث وصلـت إلى مرتبـة عاليـة مـن النهضــة العلميــة والثقافيــ­ة والاقتصادي­ــة في إطـار منـاخ مشـجِّع مـن السـلاطين والحكام الذيــن كانــوا يســخون بالمــال والعطايــا عــلى العلــم والعلمــاء، فإننــا في إطــار هــذا المنــاخ نســأل: تــرى هــل تفجّــرت قرائــح النسـاء (حرائـر، وجـوارٍ) بالإبـداع والكتابـة والشـعر، أم انحطـت أدبيـاً ووجوديـاً في ظـل انتصـار المنطـق التجـاري الـذي شَـيَّأ المـرأة وجعلهــا ســلعة تُبــاع وتُشــترى؟ وهــل إن تشــييء المــرأة هــو الــذي أثــر عــلى لغتهــا الشــعرية أم أنّ انحطــاط المــرأة تزامــن مــع تــآكُل الحضــارة فانحطَّــت شروط تحقّقِهــا وجوديــاً؟

لا يــزال موقــع المــرأة في العــصر العبــاسي يثــير إشــكالية لــدى الكثيريــن، حيــث يرونهــا في وضعيــة متحــضرة ارتقــت خلالهــا إلى قمــة مــا تصبــو إليــه مــن مــال ومنصــب وســلطان، فكانــت كاتبــة للشــعر وعازفــة للموســيقى، كمــا مارســت الغنــاء والرقــص في القصــور وفي مختلــف حلقــات الغنــاء والســمر، وهــذه الرؤيــة تتناقــض مــع عقيــدة أن المــرأة بلغــت درجــة مــن الإذلال الفــردي، الأمــر الــذي حســم مســألة أفــول الحضــارة العباســية واســتمرار­ها.

لقـد اختفـت الحرائـر عـن مـسرح الحيـاة الاجتماعيـ­ـة والأدبيــة في العــصر العبــاسي بصــورة كبــيرة، وألُزمْــنَ الصمــت في أغلــب القصــور، مــا يُــبرِّر اختفاءهــا عــن مــسرح الحــدث الشــعري والأدبــي والاجتماعـ­ـي بشــكل كبــير. هــذا فضــلاً عــن أن أشــعار الجــواري وأخبارهــن تمــلأ الصفحــات في مختلــف مؤلفــات الأدب والتاريــخ ومصادرهمـا. وبالمقارنـ­ة بـين أحـوال هـؤلاء النســاء وأحوالهــن في العــصر الجاهــلي، نجــد أن مصــدر معظــم الأشــعار أتــى مــن الشــواعر الحرائــر. أمــا الجــواري والإمــاء فــكان شــغلهن الغنــاء لا الشــعر.

وضعيــة المــرأة (الحــرّة/ الجاريــة) في العـصر العبـاسي أمـر مثـير للجـدل، بحيـث يتناقـض فيـه المظهـر مـع الحقيقـة، ومثـل هـذه الوضعيـة تتناغـم مـع منظومـة الثنائية الفكريـة الثقافيـة التـي يتبناهـا رجـال هـذا العـصر في إطـار علاقتهـم بذواتهـم وبالمـرأة. فالظاهــر يحكــي عــن الرفاهيــة والبــذخ اللّذيــن تنعَّمــت بهمــا المــرأة الحــرّة، فيمــا الحقيقــة تشــير إلى تراجــع موقــع الحرائــر اللائــي ألُزمْــنَ الصمــت والقصــور. كذلــك يحكـي لنـا الظاهـر كيــف ارتقـت الجاريـة مـن موقعهـا (كجاريـة) إلى مواقـع القصـور وســلطان الحــكام كأم وزوجــة للخلفــاء، فيمــا تُطلعنــا الحقيقــة عــن آلاف الجــواري اللائــي غــدون ملــك يمــين هــذا القائــد أو ذاك الخليفــة، وعــن ظواهــر الجــواري الغلمــان، وكســاقيات للخمــور وعازفــات لــلآلات الموســيقي­ة.

ومُســاءلة الــتراث الأدبــي والشــعري عــن إســهام المــرأة الحــرّة أو الجاريــة فيــه تكشــف لنــا عــن ماهيــة موقعهــا الحقيقــي في مجتمعهــا. وهــو تقريــر يــؤدي حُكمــاً إلى اســتبطان معرفــة موقــع المــرأة في وعــي الرجــال الســادة والشــعراء، وكذلــك مــدى إســهامها ودلالــة هــذا الإســهام في الواقــع الأدبــي، ســلباً وإيجابــاً؛ بــل إن مجــرّد مُقارنــة سريعــة بــين الشــعر النســائي في العـصر الجاهـلي وفي العـصر العبـاسي تجعلنا نـدرك أن موقـع المـرأة الاجتماعي ومسـتواها الثقــافي يُعتــبر المــرآة التــي تنعكــس فيهــا مواصفـات هـذا المجتمـع وشروطـه الحياتية.

تشــير كتــب تاريــخ الأدب إلى إشــكالية ضيــاع معظــم نِتــاج الشــاعرات النســاء في العـصر العبـاسي، وتُعلِّـل ضيـاع هـذا التراث بـأن أسـباباً اجتماعيـة قاهـرة قـد تحكمـت بوضــع الأديبــة العربيــة. فحركــة الجمــع والتدويــن لتراثنــا ثــم تأريخــه ونقــده قــد نشــطت في مســتهل العــصر العبــاسي عــلى أيــدي رجــال عاشــوا بعقليــة مجتمــع وأد المـرأة معنويـاً، وعزلهـا عـن الحيـاة العامـة، ومــن ثــمّ لــم يكــن لهــا في تصورهــم أن تتحــدث عــن عاطفتهــا وتكشــف عــن أسرار ذاتهــا.

إن كان هــذا هــو موقــف الــرواة في تلــك الفـترة فمـا بـال المعاصريـن لهـا مـن أدبـاء وحـكام وأفـراد مجتمـع؛ حيـث إن مجلـدات كاملــة مفقــودة مثــل »أشــعار الجــواري« لمضجــع، الشــاعر الشــيعي المتــوفى ســنه 327هــ، وكتــاب »الإمــاء الشــواعر« لأبــي الفــرج الأصفهانــ­ي المتــوفى ســنه 356هــ، وكتــاب المزربانــ­ي »مــن أشــعار النســاء« المتــوفىّ ســنة 384ه يولِّــد لدينــا إحساســاً بالفجيعــة لفقــدان هــذا الكــم الهائــل مــن الإبــداع الشــعري للأنثــى. تــرى هــل إن مــا بقــي مُتناثــراً في بطــون الكتــب يمكــن أن يكــون صــورة تدلنــا عــلى معالــم هــذا الشــعر وطبيعتــه؟

إن فـرادة التجربـة التاريخيـة – للمـرأة هنا – تكمــن في المُتناقضــات التــي عانــت منهــا مـن حيـث وضعيّتهـا في الواقـع، سـواءً أكانت حــرّة أم جاريــة، وهــي وضعيــة مأزقيــة قامــت بدَورهــا الأكيــد في تشــكيل الهويــة الجنســية بفعــل الإقصــاء تــارة (المــرأة الحــرّة) وبفعــل العبوديــة (المــرأة الجاريــة) تــارة أخــرى. وإذا كان للإبــداع شرط ثقــافي مُركَّــب تتعــرَّض للحرمــان منــه الغالبيــة العظمـى مـن النسـاء، فهـل اسـتطاعت المرأة في العــصر العبــاسي أن تمتلــك هــذا الــشرط أم إن التحــرر النســائي لـن يأتـي مـن مجـرّد التغيــيرا­ت الثقافية وحدهــا؟ فهنــاك أيضــاً أوضــاع

تــأسر الــروح وتذهــب بالإبــداع، وقــد تخــصّ المــرأة دون الرجــل، لــذا قيــل إنّ الأوضــاع التــي يُنتِــج أو يُبــدِع الرجــال والنســاء في ظلهــا تختلــف اختلافــاً ماديــاً، مــا يــؤدي إلى التأثــير في شــكل مــا يكتبــه كلا الطرفَــين ومضمونــه.

ومثــل هــذه الوضعيــة كانــت بمثابــة العائــق بــكل مــا تخبئــه مــن عمليــات نفســية لاواعيــة بالغــة التعقيــد قامــت بدورهــا في تشــكيل الهويــة الجنســية. والتجربــة التاريخيــ­ة للمــرأة هنــا بــكل مــا حملــت مــن متناقضــات – لا يتفــق فيهــا المظهـر مـع الجوهـر – هـي تجربـة ترصـد لنـا حجـم الخسـارة التـي تقـع عـلى إبـداع النســوة في ظــل تشــوُّه الحيــاة السياســية. فــإذا كانــت المــرأة الحــرّة تعيــش في جــو مــن الرقابــة الذاتيــة، فــإن المــرأة الجاريــة تعيــش في جــو مــن الرقابــة السياســية.

وتتبلــور مشــاعر الإقصــاء والعبوديــ­ة لــدى الحرائــر ولــدى الجــواري عــبر أغــراض الشــعر المعتــادة في صــورة الحــزن: فهــي إن مدحــت أو تغزّلــت أو افتخـرت أو رثـت يبـدو الحـزن هـو الغلالـة التــي تســتتر بهــا وفيهــا. وحــزن المــرأة هنــا وليــد المعانــاة المســتمرة والــصراع الدائـم الـذي يتعرَّضـن لـه نتيجـة الحرمـان مــن الحيــاة العامــة، حيــث ضُرِب عليهــن الحجــاب في القصــور والصمــت كتقاليــد، فوجــدْن أنفســهن مُهــدَرات المشــاعر، مُهــدَرات الوجــود العاطفــي، إلّا عــلى النحــو الــذي ســمح بــه لهــن الرجــال.

ومــع تأمُّــل مشــاعر الرثــاء والفخــر والغــزل لــدى الحرائــر والجــواري، نجــد خصوصيــة في الموضوعــا­ت المطروحــة تتناســب وخصائــص الأنوثــة، لكنهــا لا تأتــي بجديــد مــن حيــث جوانــب التجربــة الشـعرية عـن الشـاعر الرجـل. وهنـا تأتـي أشــعارهن مــن ضمــن النســق الشــعري المتــوارث مــن الشــعراء الرجــال مــن حيــث كونهـا تـدور في فلـك الرجـل اللغـوي والفني ولا تســجِّل قوالــب شــعريّة مُبتكــرة. لكــن هــذه الأشــعار، تعكــس، عــلى الرغــم مــن ذلــك، أســلوباً خاصــاً، وعاطفــة وشــخصية خاصـة بالمـرأة وضعفهـا إزاء أفعـال الرجـل، بحيــث تُســجَّل خصوصيــة في الموضوعــا­ت لا في التشـكيل الفنـي. تقـول المـرأة عـلى سـبيل المثــال مُعاتبــة زوجهــا إزاء تنكّــره لهــا وجرحــه مشــاعرها: يا من يلذذ نفسه بعذابي

ويرى مقارنتي أشد عذاب لو كنت من أهل الوفاء وفيت لي

إنّ الوفاء حليّ أولي الألباب مــا زلــت في اســتعطاف قلبــك بالهــوى كالمُرتجــي مطــراً بغــير ســحاب

هل لي إساءة جازيتها

إلّا لباس حلّة الآداب؟ فالشــواعر الحرائــر أو الجــواري – ومــن واقــع الأشــعار المتناثــر­ة في بطــون المصــادر وكتـب الـتراث لا مـن واقـع مـا ضـاع ونفـد مــن أشــعار – يتبنَّــيْنَ منظــور الرجــال (الشـعراء/ السـادة/ الخلفـاء)، وذلـك حينما ينظـرن إلى ذواتهـن معيـدات صـوغ الشـكل الهرمــي في العلاقــات مــع هــذا الرجــل أو ذلـك. فهـو الأصـل والفاعـل وهـي المهمـش المفعـول بـه، وهـو مـا يؤكـد ضيـاع الهويـة الجنســية لهــن، وتماهيهــن مــع الآخــر.. الرجــل.

إن ظاهــر الحقيقــة يرصــد لنــا كيــف حصلــت المــرأة (الحــرّة، الجاريــة) عــلى مكاسـب سياسـية واجتماعيـة وماليـة. فهـي كانــت في العــصر العبــاسي الثانــي تمســك بمقاليـد الأمـور وتتحكـم بمصائـر الرجـال. وكان مـن الأحـرى أن ينعكـس هـذا التفرّد في الواقـع عـلى التفـرُّد في التجربــة الشــعرية، وبخاصــة في أشــعار الجـواري. غـير أن هـذا لـم يحـدث في فـرادة تشـكيل التجربـة الشـعورية لكـي تصـل إلى حـد الاختـلاف والخصوصيـة، وبما يتناسـب مـع فـرادة تجربـة المـرأة في العـصر العباسي وخصوصيتهــ­ا.

لكــن ضيــاع التمايــز والاختــلا­ف في تشـكيل التجربـة الشـعورية هنـا يؤكـد عـلى انــزواء الأنــا (في حــال الحرائــر) وذوبانهــا في الآخــر (في حــال الجــواري). ومثــل هــذا الانــزواء والذوبــان نابــع – لا محالــة – مــن خصوصيــة الموقــع الــذي تشــغله هــذه الــذات، ومــا ينتــج عــن هــذا الموقــع مــن معانــاة تتســبب في إحــداث فقــدان أو انقسـام داخـل الـذات، أسـهم في عـزل المـرأة اجتماعيـاً ونفسـياً بطريقـة أدت إلى اعتمادها المطلـق عـلى الرجـل، أو بمعنـى آخـر جعلهـا تســتمد هويتهــا مــن نظــرة الرجــل إليهــا.

وتأتــي فــرادة الجــواري في التفاخــر بأجســادهن، وفي الإعــراب عــن تجاربهــن الحســية بجــرأة وصراحــة كدلالــة عــلى مــدى تبعيتهــن لمنظومــة الفكــر الســائدة التــي تُشــيّئ المــرأة وتجعــل منهــا جســداً وأداة للمتعــة، في مقابــل الإعــلاء مــن شــأن الرجــل. وهــو مــا يؤكــد حقيقــة أن نفســية المـرأة مـا هـي إلا نتـاج بنيـة مـن المؤثـرات الثقافيــة.

هكــذا وقعــت الحرائــر والجــواري في شرك »النظــرة الذكوريــة« إلى المــرأة، حيــث أعــادت الجــواري صوغهــا بالمحــاكا­ة، مــن حيــث اعتبارهــا جســداً، أو موضوعــاً؛ وكأنّ الذكـورة هنـا – تفـرض نفسـها إلى الدرجـة التــي تدفــع الشــاعرات نحــو إنــكار الــذات الأنثويــة أو الاســترجا­ل في النــص، محــاكاة القصيــدة الرجوليــة شــكلاً وموضوعــاً.

* ناقدة من مصر * ينشر بالتزامن مع دورية أفق

الإلكتروني­ة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia