Al-Watan (Saudi)

تكشف علاقة الإنسان بالبيئة ا داريات.. رؤية تاريخية وجمالية

- محمد غبريس *كاتب وإعلامي من لبنان * ينشر بالتزامن مع دورية أفق

هــا نحــن نقــف بحريــة وتأمــل ودهشــة أمــام هــذه الجــدران الممتــدة في المــدن والأحيــاء والســاحات، كأنهــا صــور ملونــة مــن خزيــن الذاكــرة وشــجون اليوميــات واللحظـات المشـبعة بالوعـي والتجـدد، ونحن حــين نعــبر الطرقــات والجســور، ونتجــول بـين المبانـي والبيـوت والمعالِـم القديمـة التي تبعــث بجدارياتهـ­ـا وألوانهــا عــلى الحُلــم والرؤيــة والتمــرد، فإننــا نحــاول أن نقــرأ التاريــخ بعيــون الفــن، ونخــترق حاجــزَ الصمــت إلى فضــاءات العيــش، ونُعانِــق الوجــود بكلمــاتٍ توقــظ كوامــن النفــس وتُصلِــح عطــب الــروح.

كلمــا نظرنــا إلى هــذه الجداريــا­ت التــي أبدعتهــا أنامــلُ فنانــين عباقــرة ومواهــب فــذة، كلمــا اتســعت الرؤيــة، وارتقــت ذائقتنــا، واغتنــت عواطفنــا وانفعالاتن­ــا، ووجدنــا فيهــا النافــذة التــي تطــل عــلى الحقيقــة، أو الضيــاء الــذي ينــزع الحجــب عــن الفكــر؛ إنهــا جداريــاتٌ مثقلــة بالألــم، تمــلأ الزمــن بقصصهــا ورموزهــا، وتَجعــل مـن المـكان مسـيرةَ نضـالٍ وإرادة، تُعـبِر عن الأحــزان كمــا الأفــراح، وعــن الــتراث كمــا الحداثــة، هــي مــن النــاس إلى النــاس، مــن تطلعاتهـم وأحلامهـم وتأملاتهـم وأوجاعهـم، هـي وحدهـا الصـوت الـذي يصعد مـن تحت ركام الصمــت وينســكب شــلالَ عنفــوان، وحدهــا الحركــة التــي تنبثــق مــن الجمــاد وتُزهـر ألوانًـا وحروفًـا، وهـي الفكـرة التـي تولــد مــن لغــة الأســوار والأغــلال لتتحــول إلى منــارة للحريــة لا تنطفــئ.

هكــذا يحمــل الفــنُ الجــداري كل هــذه القيَــم الإنســاني­ة النبيلــة والمعانــي العميقــة، نظــرًا لــدوره التاريخــي والحضــاري والثقــافي. فهــو منــذ الإرهاصــا­ت الأولى عــلى جــدران الكهــوف والأسَــقُف الصخريــة، مــرورًا بجــدران المعابــد والكنائــس، وصــولًا إلى جــدران المبانــي والمياديــ­ن والملاعــب، كان وســيلةً حقيقيــة للتعبــير عــن الحقــوق والهواجــس والمبــادئ والقضايــا الخاصــة والوطنيــة، وكان أيضًــا وســيلة للتواصــل والإعــلام ومحطــةً مهمــةً لإيصــال الرســائل احتفــاءً بكرامــة الإنســان وحريتــه. كذلــك كان شــاهدًا عــلى كل المتغــيرا­ت والتطــورا­ت عـلى مـر العصـور، إذ لـكل مرحلـة جداريتها وكلماتهــا وألوانهــا وأســاليبه­ا وفنانوهــا، ولــكل بلــد أو مدينــة حكاياتهــا وأحلامهــا ونضالاتهــ­ا وإبداعاتهـ­ـا. ومــن خــلال مشــاهدتنا لأي جداريــة في الطريــق يُمكــن أن نقــرأ الواقــع والأحــداث والتطلعــا­ت، ويُمكــن أيضًــا أن نتعــرف إلى الحضــارات والثقافـات، فهـي تُتيـح لنـا الانطـلاقَ نحـو فضــاءاتٍ واســعة بــلا قيــود أو زمــان، تتجـدد العلاقـة مـع المـكان، ويتسـع الحنـين وتتجــلى الذكريــات، وفي كل مــرة نشــاهد هــذه الجداريــة أو تلــك نكتشــف أسرار الأيـام وعبقريـة المـكان، ونشـم منهـا رائحـة المـاضي، كأننـا أمـام قصائـد متحـررة تشـدو بالحــب والإحســاس والســلام.

والمُتأمــل في الجداريــا­ت، ســيتعرف إلى أنـواعٍ مختلفـة ذات غايـاتٍ وأهـداف، فمنهـا مـا هـو مُقـاوِم وثـوري (مُقاوَمـة الاحتلال)، ومنهــا مــا هــو تجميــلي (تزيــين المُــدن)، ومنهــا مــا هــو تشــكيلي (لوحــات نابضــة بالحيــاة والطبيعــة)، كذلــك ســيتعرف إلى جداريــات عــلى شــكلِ نُصــبٍ ومنحوتــاتٍ (نصــب الحريــة في ســاحة التحريــر في بغـداد)، وأيضًـا على شـكل وسـائل إرشـادية وتعليميــة وتوعويــة (مخاطــر الأمــراض وأهميــة النظافــة). وهنــاك أيضًــا جداريــات تتضمـن عبـاراتٍ تحفيزيـة وتشـجيعية عـن النجــاح والعمــل والحيــاة، إضافــة إلى ذلــك، ثمــة جداريــات تلعــب دَورًا توثيقيــا بهــدف اســترجاع أحــداث المــاضي.

إن أهــم مــا يميــز هــذا الفــن العالَمــي هـو وجـوده خـارج المعـارض والغاليريه­ـات وأنــه غــير مرتبــط بالوقــت، يتركــز عــلى واجهــاتِ المبانــي والجــدران، وغالبًــا مــا يحمـل رسـالةً سياسـية وثقافيـة. لـذا يُمكـن مشــاهدة ومتابعــة إنجــاز أي جداريــة مــن البدايـة حتـى النهايـة بشـكلٍ مبـاشر، سـواء كان العمــل فرديــا أم جماعيــا، والتعــرف إلى الطريقــة والتقنيــا­ت التــي يَســتخدمها الفنانـون في رسـمها، والاطـلاع عـلى أفكارهـم وإبداعاتهـ­ـم والرســائل التــي يريــدون إيصالهـا، والمضامـين التـي يقدمونهـا سـواء بأسـلوب واقعـي أم تجريـدي أو »فانتـازي«، وهــي بتشــكيلات­ها وحروفياتهـ­ـا وتكويناتهـ­ـا تضفــي جماليــةً ســاحرة وبهــاءً ورَونقًــا خاصــا.

ا داريات وتحويل وجه المدن

والمُتتبـع لهـذا الفـن يُمكـن أن يشـاهد جداريـات مرسـومة بريشـة فنانـين كبــار، وأخــرى مــن أعمــال هــواة كان لهــم دَورُهــم البــارز في جعْلِــه فنــا شـعبيا؛ فهُـم يُترجِمـون الواقـع بـكل معانيـه ويَرسـمون مسـتقبلًا يصبـون إليــه يتســم بالحريــة والأمــان والاســتقر­ار. فقــد غــيرت الجداريــا­ت وجــهَ المُــدن، وحولــت الشــوارع إلى لوحــاتٍ تشــكيلية باهــرة، وجَعَلَتْهــا حيــة نابضـة بالألـوان والكلمـات والصـور، تُجسِـد الحيـاة والتعايُـش والسـلام، وتَحمـل قيَمًـا جماليـة ومعانـي نبيلـة، وتُـبرِز القضايـا الراهنـة في مجـالات السـياحة والـتراث والصحـة والبيئـة. كلهـا حـالات إبداعيـة لجـذْبِ الأنظـار وإيصـال الرسـائل، بمـا في ذلـك الاحتجـاج والثـورة، حيـث شـكلت مَقصـدًا للــزوار والســياح والمُهتمــين وعشــاق هــذا الفــن للاســتمتا­ع أولًا بالألــوان والكتابـات والجماليـا­ت والإيمـاءا­ت؛ وثانيًـا لقـراءة الموقـف والـدور والحدث والهـدف والأهميـة مـن زوايـا واتجاهـات متعـددة؛ وثالثًـا لاسـتمداد القـوة والأمـل والمعرفـة والتضحيـة. وتكشــف الجداريــا­ت برســومها ورموزهــا ودلالاتهــ­ا عــن تلــك العلاقــة بــين الإنســان والبيئــة، وبــين القصيــدة والمــكان، وبــين اللغــة والإبــداع، وقــد تتخــذ أبعــادًا وأشــكالًا متنوعــة. فالنصــوص التــي حملــت عناويــن »جداريــات« لا تقــل أهميــةً وتأثــيرًا عــن تلــك التــي مــلأت الحوائــط والشــوارع والأماكــن، وجميعهــا يتميــز بمضمــونٍ فكــري وثقــافي ورؤيــةٍ تاريخيـة وجماليـة وفنيـة. إنهـا تعكـس مـا في دواخلنـا مـن قلـق وشـغف وأســئلة، وتنقــل أحاسيســنا وانفعالاتن­ــا وهمومنــا، لعلهــا تصــور جانبًــا مــن حياتنــا وأحوالنــا ويومياتنــ­ا، لتظــل شــاهدةً عــلى المُعانــاة وويــلات الحــرب وقســوة التاريــخ، ولتظــل ذاكــرةً حيــة تســتعيد المــاضي وتقــرأ الأحــداث بــرؤىً ومســاراتٍ جديــدة. اختلفـت طبيعـةُ الجداريـات، لجهـة تعبيرهـا عـن الشـعوب، وباتـت أكثـر

وضوحًــا، وخصوصًــا في المرحلــة المُعــاصرة والحديثــة. وهــذا مــا أشـار إليـه الدكتـور مـاضي حسـن في كتابـه »الفـن وجدليـة التلقـي« قائـلًا إن الجداريـات العربيـة تحكـي مضامينهـا في مجـالٍ مفتـوح أمـام المجتمـع العــام مــن خــلال عرضهــا في أماكــن في الطــرق وأمكنــة التجمــع، مــن حدائــق وأبنيــة كبــيرة. ولقــد تجســد ذلــك عنــد بعــض الــدول العربيــة بأثـر الأحـداث الحاليـة منهـا: قيـام الثـورات في تونـس ومـصر حتـى أطُلـق مصطلـح »حـرب الحوائـط«، حيـث كان الفـن قـادرًا عـلى توصيـل رسـالة الشـعوب إلى الحُـكام، وكان الأمـر في ليبيـا أيضًـا؛ وهكـذا تحـول هـذا الفـن مـن أداةٍ في يـد الحُـكام إلى فـن احتجاجـي، غالبًـا مـا يَعكـس اعتراضًـا عـلى الأوضـاع السـائدة. أخــيرًا حــين نتحــدث عــن الجداريــا­ت، فــلا بــد مــن أن نشــير إلى الــدور الـذي لعبتـه الفنـون القديمـة في إثـراء فـن التصويـر الجـداري أو النقـوش الجداريــة، وهــي مــا زالــت ســائدة حتــى اليــوم، وتنتمــي إلى الحضــارات والأمُــم القديمــة، كالحضــارة الرافدينيـ­ـة والمصريــة والهنديــة والصينيــة واليابانيـ­ـة؛ وتحتــوي في الغالــب عــلى أســاطير ومشــاهد حيــاة وقصــص تاريخيــة، كانــت تُرسَــم في المعابــد والمقابــر، ثــم في قصــور الملــوك. أمــا الحضــارة الإســلامي­ة فــكان لهــا نصيــبٌ وافِــرٌ مــن الجداريــا­ت تمحــورت حــول الفنــون المعماريــ­ة كزخرفــة المســاجد والمراقــد الدينيــة ونقشــها بالكلمــات والمُنمنمــات والآيــات القرآنيــة والكتابــا­ت الشــعرية، فكانــت خــير وســيلة للتعبــير عــن أنمــاط الحيــاة والتفكــير والســلوك وطبيعــة المُجتمعــات والمضامــي­ن الاجتماعيـ­ـة والفكريــة والثقافيــ­ة.

 ?? ??
 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia