Asharq Al-Awsat Saudi Edition

لبنانيون لم يتعلموا الدرس

- حنا صالح

يتذكر اللبنانيون أن حربهم الأهلية بدأت يوم ١٣ أبريل (نيسان) ١٩٧٥، لكن لا اتفاق بينهم على تاريخ موحد لنهايتها، والثابت أنه كلما لاح شبح اضطراب داخلي، التقت المواقف على تأكيد أن الحرب الأهلية ما زالت مستمرة ولو بأشكال جديدة. كان يمكن أن يضع اتفاق الطائف، الذي صاغ وثيقة الوفاق الوطني، (تحولت لاحقاً دستوراً للبلاد)، النهاية الحقيقية للحرب الأهلية، لكن قانون العفو عن جرائم الحرب، والانقلاب المبكر على الدستور، وكلاهما نفذ بأيادٍ لبنانية وإن كان نتيجة إملاءات المحتل السوري، وأفضيا لتحاصص الدولة، ما ترك البلد معلقاً، فلا الدستور تم تطبيقه، ولا القوانين نفذت بعدالة في كل الأوقات على البلاد والعباد، فسادت الاستنسابي­ة، وتفشت المحسوبية، وباتت المحاصصة والفساد المرتبط بها، والناجم عنها، القاعدة الذهبية لأكثرية الطبقة السياسية التي استأثرت بالقرار منذ ٢٧ عاماً، هي عمر اتفاق الطائف.

التذكير بهذا الواقع أملاه ما شهده لبنان قبل أيام؛ خلاف بين أطراف الحكم على الحِصص في البرلمان الآتي، فجّر تعبئة طائفية مرعبة، على خلفية عجزهم عن التوافق على قانون جديد للانتخابات النيابية، وما تلا ذلك من دعوة لجلسة نيابية تُمدد للبرلمان القائم مرة ثالثة، وهذه فضيحة، وإن كانت الذريعة منع الفراغ في السلطة التشريعية. استُحضرت لغة الحرب، واستُنفرت الغرائز، وبدت التحركات الغوغائية من جانب قوتين رئيسيتين في البرلمان وكأن المتاريس قد أقيمت، وبدت شرائح واسعة من اللبنانيين وكأنها لم تتعلم شيئاً، فيما يعرف القاصي والداني، أن كل ما يجري، يندرج في سياق لعبة التنافس لاحتكار الأكثرية النيابية الآتية، عبر تعديل الحصص في نسبة استنساخ البرلمان الحالي.

حسناً فعل رئيس الجمهورية باللجوء إلى المادة ٥٩ من الدستور، فأعلن تأجيل جلسة البرلمان لشهر كامل. هذه الصلاحية التي استخدمت لأول مرة، أبطلت الفتيل وجمدت التوتر الذي ساد الشارع، عندما أرجأت الأزمة، وحثت على البحث عن تسوية. جوهر خلاف أهل الحكم يكمن في التحديد المسبق لأحجام الكتل النيابية، قبل الذهاب إلى صندوق الاقتراع، وليس عدالة تمثيل أو عدالة معايير، توضع أمام الناخبين، لاختيار حقيقي يرسي السياق لخروج البلد من أزمات تتناسل. مهلة الشهر تبدو محاولة اللحظة الأخيرة، لإنتاج اتفاق يتيحُ لكل طرف، الاستئثار بالتمثيل الحصري لطائفته بعيداً عن أي مصلحة وطنية، وأفضل تعبير عن هذا المنحى الكارثي، المشروع المطروح الآن وهو من مرحلتين؛ الأولى »التأهيل الطائفي« على مستوى القضاء، والثانية الانتخاب النسبي بين المتأهلين على مستوى المحافظة.

إنه مشروع القانون الذي عُرف بالأرثوذكس­ي، المتصادم مع الدستور الذي رسم سياقاً لبلوغ انتخابات خارج القيد الطائفي تعزيزاً للمواطنة، يعود اليوم بحلة جديدة، فيفرض التضييق على خيارات الناخب التي كفلها الدستور، ليحصرها بانتخاب كل ناخب لمرشح من مذهبه، ما يعني حرمان مئات ألوف الناخبين من المشاركة في المرحلة الأولى التي سميت »التأهيل الطائفي«، والسبب أن لا نواب لمذهبهم في دائرتهم الانتخابية.

يستحيل أن يجيز المجلس الدستوري فكرة »التأهيل«، لأن النائب ممثل لكل الأمة وليس لطائفته، فيما »التأهيل« يقوم على الفصل الطائفي، ويمثل خطوة مريعة إلى الوراء، من شأنها مفاقمة المشاعر الطائفية والمذهبية والمناطقية، وتؤجج أجواء الفتن التي لم يتخلص منها لبنان. إنه طرح أشبه ب »أبرتهايد« لبناني، كما وصفه الوزير السابق الدكتور طارق متري، الذي يرى أن الدافع الأساسي وراء هذا الطرح، وضع يد الأحزاب الطائفية على طوائفها!

هنا تقتضي المصارحة القول، إنه منذ تم فرض تعليق واقعي للدستور، حُكم البلد وفق منطوق »الاتفاق الثلاثي« للعام ١٩٨٦، الذي أعطى النظام السوري الكلمة الأخيرة. وبعد العام ٢٠٠٥، وتباعاً، استأثر بالقرار »حزب الله«، وهو فصيل من »فيلق القدس«، فأمعنت الأحزاب الطائفية التي تتقاسم معاً »كعكة« الحكم، في وضع يدها على طوائفها في التمثيل السياسي وفي الإدارة والقضاء والأمن... إلخ، لكن لبنان ما بعد الطائف، عرف أيضاً بعض الاستثناءا­ت، يجري العمل اليوم لتذويبها وإنهائها، آخرها الانتخابات البلدية في العام ٢٠١٦، التي أظهرت بوادر تغيير تتجاوز الانقسامات الطائفية في أكثر من منطقة، إلى انتخابات نقابة المهندسين مؤخراً، حيث هزم المهندس المرشح المستقل باسم المجتمع المدني، مرشح الحكم المدعوم من كل الأحزاب الرئيسية الحاكمة، ما أعطى مؤشراً عن أن المسيرة التي يقودها المجتمع المدني لتطوير النظام السياسي، وترسيخ بنيان للدولة يقوم على المواطنة، ويعيد الاعتبار للدستور والقانون، حتى اشتدت هجمة القوى الطائفية التي ما زالت تتعثر بتناقضاتها وأطماع بعض المتسلقين منها، قبل أن يتبلور أكثر، مشروع القوى المدنية التي تتحول إلى حالة عصية على التطويع، منطلقها هاجس ديمقراطي، يفرض بفعل أصوات الناس، ترسيخ المؤسسات، ويحمي السلم الأهلي، ويجدد في بنية الطبقة السياسية، ويؤمن أبرز أسس طي صفحة الحرب الأهلية بشكل نهائي.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia