Asharq Al-Awsat Saudi Edition

الموضة شاهدة على ذاكرة وأحلام وتاريخ

جيل ليبوفسكي استقصى جذورها الثقافية في كتاب أصدره المركز القومي للترجمة

- القاهرة: جمال القصاص

الطريف في هذا الكتاب الشيق أنه لا يتعامل مع الموضة كظاهرة عابرة... بل يؤصل لنشأتها كظاهرة وحاجة فطرية بشرية

عن الموضة، نشأتها وعالمها وثـقـافـتـ­هـا وفـلـسـفـت­ـهـا وجـنـونـهـ­ا الدعائي، وأقنعتها التي قد تنقلك مــن طـبـقـة إلـــى أخـــــرى، أو تـهـوي بـــك إلــــى الــحــضــ­يــض، يـــــدور هــذا الـكـتـاب الشيق »مملكة المـوضـة.. زوال مـــــتـــ­ــجـــــدد،« لــلــفــي­ــلــســوف الفرنسي عالم الاجتماع الشهير جيل ليبوفتسكي، الـذي ترجمته للعربية بسلاسة ممتعة وقدمت له الدكتورة دينا مـنـدور، وصدر حديثاً عن المركز القومي للترجمة بمصر.

وتــــتـــ­ـســــاءل المــــتــ­ــرجــــمـ­ـــة، فـي تقديمها للكتاب، عن الدوافع التي تجعل فليسوفاً ذائع الصيت يهتم بموضوع هو من قبيل الرفاهية وتــرف الــضــرور­ة الإنـسـانـ­يـة، لكن الأمــــــ­ر يـــبـــدو طـبـيـعـيـ­اً بـالـنـسـب­ـة لـفـيـلـسـ­وف اشـتـهـر بـكـتـابـا­تـه عن سلوكيات الإنسان في مجتمعات مــــــا بــــعــــ­د الــــــحـ­ـــــداثــ­ــــة، ووصـــفـــ­هـــا بــ »الـحـداثـة المــفــرط­ــة«، وكـــان ذلـك محوراً مهماً في عدد من مؤلفاته، ومـن أبـرزهـا »زمــن الـعـدم« ،١٩٩٨ و »مجتمعات الإخفاق « و»السعادة المـفـارقـ­ة« ٢٠٠٦، و»المـــرأة الثالثة« ٢٠١٢، وقد ترجمته أيضاً الدكتورة مـــــنـــ­ــدور، وصـــــــد­ر فــــي الــســلــ­ســلــة نفسها.

ويـنـطـلـق الـكـتـاب بصفحاته الـتـي تـربـو عـلـى ٣٠٠ صـفـحـة من القطع الكبير مـن فكرة أساسية، مفادها أن تاريخ الأزياء لا ينفصل عن تاريخ المفاهيم والإشكاليا­ت الــتــي تـسـيـطـر عـلـيـهـا، فـــالـــز­ي لا يـقـتـصـر عــلــى المــظــهـ­ـر الــخــارج­ــي للإنسان، ولا على نزعة التنافس بــأبــعــ­ادهــا الـطـبـقـي­ـة، بــين الـغـنـى والفقر، وإنما هو تعبير عن رؤى وقـيـم ثـقـافـيـة، تعبر عـن الـجـديـد، وعن شخصية الإنسان التي لعبت دوراً أسـاسـيـاً فـي ظـهـور المـوضـة فـــي أواخــــــ­ـر الــعــصــ­ور الــوســطـ­ـى. فقد ساهم كـل هـذا فـي التخطيط للمراحل الرئيسية لتنامي ظاهرة المـوضـة عبر مسارها التاريخي، حـيـث يـــرى لـيـبـوفـت­ـسـكـي أنـــه في نــهــايــ­ة تــلــك الـــعـــص­ـــور تــحــديــ­داً، تجسدت كثير من العلامات التي تشهد على حالة الأخذ في الاعتبار غير المسبوقة للهوية الانطباعية لإرادة التعبير عن التفرد الفردي، وتمجيد الفردانية، وهو ما ظهر في كتابة يوميات ومذكرات، ظهر فيها الانشغال بهوية المتحدث في تعبير فـــردي، كـمـا ارتـفـعـت نبرة البوح الحميم، في الأعمال الشعرية والأدبية، واتسعت المساحة لظهور البيوغرافي­ا الـذاتـيـة والبورتريه الذاتي الواقعي.

ويــــؤكــ­ــد الـــكـــت­ـــاب عـــلـــى هـــذه الـــفـــر­دانـــيـــ­ة، ويـــعـــز­و إلــيــهــ­ا فـكـرة زحزحة التقليدي الثابت، في كل أوجه الثقافة والفن. وفي المقابل، دعم صيرورة الابتكار المستمر في الأشــكــا­ل والأسـالـي­ـب، الأمــر الـذي مهد الأرض أمـام الموضة لتنتشر بــإيــقــ­اعــات مــتــســا­رعــة، والــركــض وراء الاخـــتــ­ـلاف والمــنــا­فــســة إلــى حـد الـطـيـش والـجـنـون، مـا شجع عـلـى ظـهـور التعبير عـن الأذواق المـتـفـرد­ة، والاسـتـمـ­رار فـي البحث عن علامات جديدة، تتجاوب مع صيحات الطبقة الـراقـيـة، وتلبي احتياجاتها ورغـبـاتـه­ـا، وهـو ما انعكس بدوره على مناشط الحياة والفكر المعرفي بشكل خاص.

ويـذهـب ليبوفتسكي إلـى أن صــيــرورة مــن إضــفــاء الأسـلـوبـ­يـة عــلــى مـعـايـيـر الــحــيــ­اة والأذواق

َ صاحبت التكثيف، وتسارع البحث عن متع الحياة نفسها، لافتاً إلى أن ظـهـور المـوضـة لا ينفصل عن الثورة الثقافية التي تبلورت في منعطف القرنين الحادي والثاني عشر، خصوصاً في طبقة الأمراء، ومـع الإعــلاء مـن قيم الـبـلاط التي شـكـلـت طــفــرة فــي الـشـعـر بـالـرقـة المـرهـفـة، وأيـضـاً تـحـديـث نـمـوذج حـيـاة الـفـرسـان، أضيفت معايير أخــــرى إلـــى الاحــتــي­ــاج الـتـقـلـي­ـدي للقوة، على رأسها معايير اللغة والصفات الأدبية، والعلاقة المثلى مــــع المـــــــ­ـــــرآة... فـــالمـــ­وضـــة انـبـثـقـت مـــــن الـــجـــه­ـــد المــــتــ­ــأنــــي لــحــضــا­رة الأخلاقيات والمـتـع، بالتوازي مع الولع بالأشياء الجميلة والأعمال الفنية.

ويـتـابـع المــؤلــف مـوضـحـاً أن ظهور الأزياء في العصر الحديث بـــــــــ­دأت فـــيـــه حـــقـــبـ­ــة جـــــديــ­ـــدة فــي الـفـنـون الـزخـرفـي­ـة الـتـي انـتـشـرت في كل المجالات، مثل فن العمارة والمــنــم­ــنــمــات الــقــوطـ­ـيــة الأنــيــق­ــة، وتــغــيــ­ر ألـــــــو­ان المـــلابـ­ــس لــلــرجــ­ال والنساء، وفنون تصفيف الشعر للنساء، وغيرها من الأشياء التي انـعـكـسـت عـلـى أسـالـيـب وطـرائـق العيش والحياة.

والــطــري­ــف فـــي هــــذا الـكـتـاب الشيق أنه لا يتعامل مع الموضة كـــظـــاه­ـــرة عـــــابــ­ـــرة، فــهــو يــؤصــل لنشأتها كظاهرة وحاجة فطرية بـــشـــري­ـــة، كــمــا يـــرصـــد تــطــورهـ­ـا كأسلوب وعلم، يتقاطع ويشتبك مــع كــل مــقــومــ­ات الـثـقـافـ­ة والـفـن والـحـيـاة. وعـــلاوة عـلـى كـل هـذا، يـــنـــظـ­ــر إلــــــــ­ى المــــــو­ضــــــة كــمــســر­ح تحولات لإغــراءات الحياة، وهي إغــــراءا­ت لـهـا فلسفتها وجدلها الـخـاص، ويكمن هــذا الـجـدل في أنها تزول لتتجدد، لتبقى شاهداً على ذاكــرة وأحــلام وتـاريـخ. كما يحلل المؤلف حيوية هـذا الجدل من زوايا توغل الموضة في حياة الإنسان، فغوايتها لا تنفصل مثلاً عن غواية الحرية والديمقراط­ية، وإيــقــاع­ــاتــهــا مـعـقـدة ومـتـنـوعـ­ة، بحسب طبيعة الدول والعصور، ومــنــظــ­ومــة الأعــــــ­ـراف والـتـقـال­ـيـد الــــخـــ­ـاصــــة، فــــالمــ­ــوضــــات تــتــعــد­د بطبيعة المؤنث والمذكر، والظروف الملائمة لفكرة الاستمرار، وخلق فضاءات محتملة ومغوية لفكرة الجمالية التي تنشدها الموضة، من الأرستقراط­ية إلى الشبابية، وغيرهما من الطبقات.

ويـركـز الكتاب على الإعــلام، مـشـيـراً إلـــى أنــــه، بـمـا يـمـلـكـه من تـنـوع وجـاذبـيـة ودعــايــة، يشكل نقطة التقاء خصبة بـين الثقافة والمـــوضـ­ــة، بـــين طــابــع احـتـمـالـ­ي ونـسـبـي تمثله الأولـــى وتقنيات دعائية، تؤثر في قلب الاستهلاك الثقافي، بداية من صناعة الكتاب والأغــنــ­يــة والمــوســ­يــقــى والـفـيـلـ­م، وما تحمل كل هذه العناصر من نشوة التحول والفروق الطفيفة، والمــــخـ­ـــاطــــر­ة فــــي الاســـتــ­ـمـــراريـ­ــة أحـيـانـاً، مـن أجــل تـوكـيـد ارتـبـاط قد يكون لحظياً بين قيم الحداثة والتجريب، وهي قيم لا تخلو من التأثر بمعايير السوق المستهلك، فالكتب لا ينطبق عليها ما يرتبط بالسينما أو الأسـطـوان­ـات، وهو مـا يلخصه الـكـتـاب قـائـلاً: »إننا نشهد هنا ظاهرة تدل على الزوال أكثر من أي وقت آخر«.

ويــــشـــ­ـيــــر الـــــكــ­ـــتـــــا­ب إلــــــــ­ى أن خــصــوصــ­يــة الإعــــــ­ـلام تــكــمــن فـي فردنة الضمائر، وتفريق الهيئة الاجــتــم­ــاعــيــة الـــتـــي لا تـحـصـى، مــــؤكـــ­ـداً فــــي هــــــذا الـــســـي­ـــاق عـلـى أن الأنـظـمـة الـثـقـيـل­ـة لا تـكـف عن فــقــدان سـلـطـتـهـ­ا، خـصـوصـاً »أن الإعــلام أصـبـح عـامـلاً مـحـدداً في سياق أنظمة الوعي الكبيرة التي تـصـاحـب الـــثـــو­رة المــعــاص­ــرة في المـجـتـمـ­عـات الـديـمـقـ­راطـيـة، ومـن خـــلال مـنـطـق الــحــدث الــواقــع­ــي، حـيـث لا يـكـف الإعـــلام بـــدوره في هــــذه المــجــتـ­ـمــعــات عـــن الــحــد مـن تأثير التطلعات العقائدية، إنه يصطنع إدراكاً غريباً أكثر فأكثر عـن الـتـفـسـي­ـرات الـديـنـيـ­ة للعالم، وهذا ليس فقط بواسطة الأخبار الـــيـــو­مـــيـــة المــقــسـ­ـمــة والمــتــق­ــطــعــة والــدقــي­ــقــة، لـكـن أيــضــاً بـواسـطـة انــــحـــ­ـراف كـــل هــــذه الإصــــــ­ـــدارات، حـيـث يـتـدخـل الــخــبــ­راء، ورجـــال الـعـلـم، ومـخـتـلـف المتخصصين، ويــــشـــ­ـرحــــون بـــطـــري­ـــقـــة بـسـيـطـة ومــــبـــ­ـاشــــرة لــلــجــم­ــهــور الــحــالـ­ـة الـنـهـائـ­يـة لــلــتــس­ــاؤلات«. وهــنــا، يلفت الكتاب إلى أن وسائل الإعلام تـسـيـر نـحـو مــا يسميه »الـسـحـر المتميز« للموضوعية الوثائقية والعلمية؛ إنها تنسف التفسيرات الشاملة للظواهر لصالح تسجيل الأحداث، وتحويلها إلى وضعية سائدة.

ويــتــابـ­ـع الــكــتــ­اب، مــؤكــداً أن هـــذا يــحــدث، عـلـى الــرغــم مــن أن الآيــديــ­ولــوجــيـ­ـات الـكـبـيـر­ة تميل إلـــى الـتـحـرر مــن الــواقــع الـفـوري المــفــتـ­ـرض والمــضــل­ــل، مستخدمة »قـــــدرة المـنـطـق الــتــي لا تــقــاوم«، والإجراءات الصارمة للحسم، رداً على التفسيرات النهائية الناتجة عن المقدمات المطلقة، وذلـك على عكس الإعلام الذي يقدس التغيير الــتــجــ­ريــبــي، الــنــســ­بــي، الـعـلـمـي، مستهدفاً قـلـيـلاً مـن التعليقات، كـــثـــيـ­ــراً مــــن الـــــصــ­ـــور، قـــلـــيـ­ــلاً مـن الـتـركـيـ­بـات الـنـظـريـ­ة، كـثـيـراً من الأحـداث، قليلاً من الوعي، كثيراً من التقنية.

ويــخــلــ­ص لـيـبـوفـت­ـسـكـي في هذا الصدد إلى أن زيادة البرامج والـقـنـوا­ت الفضائية الإعـلامـي­ـة، وفـــــي ظــــل الاتــــسـ­ـــاع الـــهـــا­ئـــل فـي مملكة الموضة، لم تستطع بعثرة أذواق الأشخاص، وتحريك أهواء الاستقلالي­ة الخاصة، ما يستدعي على الجانب الآخر طرقاً راديكالية مـــعـــاك­ـــســـة، بـــعـــيـ­ــداً عـــــن تــقــديــ­م »الواقعية الملتهبة،« تحت منطق إغـواء أو إلهاء الجمهور، مشيراً إلـــى أنـــه مـــن أجـــل تـعـقـب مـشـرق لـلـعـالـم، لا بـد أن تـتـجـرد وسـائـل الإعـــلام مـن حـظـوة روح الـنـظـام، لـكـي تـشـيـع حـسـاسـيـة الجمهور لـلـرؤى المجمعة للعالم، وظهور روح واقـعـيـة منفتحة، مـأخـوذة بـالـوقـائ­ـع، بـالمـبـاش­ـر، بالتجربة المعاشة، حتى لا تختلط بالشهوة الـــــبــ­ـــراقــــ­ـة المـــــخـ­ــــادعـــ­ــة لـــــلإعـ­ــــلام، فــــي فـــضـــاء مــــوضـــ­ـات سـيـاسـيـة واقتصادية وثقافية واجتماعية لا تخلو من توجهات آيديولوجية معينة تعوق فكرة الحرية، وكما يـقـول الـكـتـاب: »لـو تكلمنا قليلاً في الملاهي الليلية، لا يعني ذلك أنه ليس لدي الناس ما يقولونه لبعضهم، بل يعني رغبة متزايدة فـــــي إطــــــــ­ـلاق مـــكـــبـ­ــوتـــاتـ­ــهـــم، فــي الشعور بأجسادهم، في التحرر مــن الـقـوانـي­ن الـجـبـريـ­ة لـلـخـرافـ­ة، والتبادل البين إنساني.«

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia